رومية: "قنابل بشرية" داخل الزنازين

في زنزانة بالكاد تتّسع لأربعة أنفاس، يتزاحم أكثر من عشرة أجساد بشرية. لا مكان للراحة هنا، فالبعض تمدد على الأرض الإسمنتية الباردة، وآخرون اعتلوا أسرّة عشوائية من طبقات معدنية تتداعى، فيما يُجبر من تبقّى على النوم واقفًا، أو التناوب على لحظات من غفوة مُرّة. هنا، في سجن رومية، لا يُقاس الوقت بالساعات، بل بالأنفاس المختنقة والعتمة المتكدّسة.

قنبلة موقوتة

لقد تحوّل هذا السجن، الأكبر والأكثر شهرة في لبنان، إلى قنبلة بشرية موقوتة، كما وصفه نقيب المحامين ملحم خلف. هو ليس مجرد مبنى يقع في بلدة رومية بمحافظة جبل لبنان، بل مزيج قاتم من الاكتظاظ، والإهمال، واليأس. صُمم ليستوعب نحو 1500 نزيل في السبعينيات، لكنه اليوم يكتظ بالآلاف.. رجالًا ونساءً وقُصّرًا، سواء كانوا محكومين أو في التوقيف الاحتياطي، باختلاف محتوياتهم الجنائية أو الإدارية.

ممر مكتظ في سجن رومية

أقل من متر واحد للشخص

في لقطات مسربة من داخل السجن، يظهر عدد من الرجال ممدّدين على فرش رقيقة تفصل بينهم أقدام قليلة فقط، على امتداد ممر ضيق. ويأوي سجن رومية اليوم أكثر من 4000 سجين، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف قدرته الاستيعابية الأصلية، مما يفسر سوء الأوضاع داخل بعض أجنحته. ويتسبب الاكتظاظ بانتشار العدوى في حال مرض أي نزيل كالنار في الهشيم، كما حصل إبان كورونا حيث أدى تجمع النزلاء في الأماكن الضيقة لقفزة في عدد المصابين في وقت قياسي من 13 إلى 250 مصابا خلال أيام معدودة.

"النداء الأخير أن الموت أهون علينا من حياة بلا كرامة."
- تسجيل منسوب للسجناء السوريين

بين الجوع والمرض

"أبني يأكل طعاما ما كنت أطعمه لكلب حتى!"
تقولها إحدى أمهات السجناء وهي تبكي من الحرقة لعجزها في الأصل عن توفير الطعام لابنها مما اضطره للاعتماد بشكل كامل على الوجبات المقدمة داخل السجن.

لقد أدت الأزمة الاقتصادية إلى تدهور شديد في نوعية وكمية الطعام، حسب هيومان رايتس ووتش. وتقول بعض أسر السجناء إن الطعام "لا يصلح حتى للكلاب"، ويتم تقديم كميات ضئيلة جدًا (مثلاً قدر واحد من البرغل لـ 500 سجين). كما يباع الطعام داخل السجن بأسعار خيالية تتجاوز أحيانًا 2 أو 3 أضعاف سعر السوق. تضيف إحدى الأمهات: "في الماضي، كانوا يقدمون أربع طناجر كبيرة من البرغل لحوالي 500 سجين، أما الآن فيتم تقديم طنجرة واحدة فقط. المسألة لا تقتصر على التغذية، إنها مأساة كرامة".

وتنسحب الأزمة على الرعاية الصحية في ظل النقص الحاد في الأدوية، على الرغم من التبرعات الدولية مثل تبرع إيطالي بمبلغ 100 ألف يورو. ولا يحصل السجناء على الدواء حتى عندما تشتريه عائلاتهم من الخارج. وأعربت زوجة أحد السجناء عن استيائها قائلة إنّه حتى بعد أن قامت العائلات بشراء الأدوية من مالها الخاص، لا يحصل السجناء عليها داخل السجن. كما أظهر فيديو يفترض أنه مسرب من السجن، بعض النزلاء وهم يحاولون عبثا إنقاذ سجين "أغمي عليه من 4 ساعات".

ويشن السجناء الإضرابات بشكل دوري اعتراضا على سوء التغذية، خصوصًا السوريين، الذين نظموا حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، إضرابات عن الطعام منذ فبراير 2025، مطالبين بتحسين أوضاعهم أو ترحيلهم، معتبرين أن الغذاء المتوفر لا يفي بالحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.

ويأسف الناشط خالد الدالي (اسم مستعار) المتابع لملف السجناء لأن "هؤلاء لا يلقون العناية اللازمة، حيث قد لا يوجد إلا طبيب واحد لمئات السجناء وذلك تحديدا بفعل الأزمة الإقتصادية، بينما يحتاج كل مبنى على الأقل لـ 4 أطباء عدا عن الحاجة للمرضين. والأسوأ من ذلك أن السجناء يقتلون في الداخل ومن يخرج يظفر بحياته حيث تقتصر الطبابة على الحبوب المسكنة، لكل أنواع الأمراض من آلام الأسنان وصولا إلى أمراض الكبد".

ومنذ أيام معدودة فقط وبينما نعد هذا التقرير ، نعت إحدى العائلات في بيان ابنها الذين كان سجينا في رومية مشيرة إلى أن وفاته مرتبط بنقص الرعاية الطبية. ونعى البيان "السجين زياد مصباح شهاب، الذي فارق الحياة في سجن رومية المركزي يوم الأحد الموافق 20 تموز 2025، عن عمرٍ ناهز الـ 60 عامًا، إثر تقصير في الرعاية الطبية وتفاقم معاناته من مرض سرطان العظم المتقدم (...) ورغم هذه المدة الطويلة، ومعاناته من مرض السرطان الذي كان يتطلب رعاية متقدمة، لم يلقَ الرعاية الصحية الأساسية التي كان يستحقها، ولم تُحل قضيته رأفة بكبر سنه ومرضه."

رمز للإهمال الطبي والطعام السيء

إغراق لا تأهيل

طائرة مسيرة تستخدم لتهريب الممنوعات

داخل سجن رومية، الظلام مضاعف حيث تنقطع الكهرباء وتفتقر القاعات للتهوئة المناسبة والحال سيان بالنسبة للماء. كما يبدع السجناء في ابتكار طرق جديدة لتهريب الممنوعات والمخدرات، حتى باستخدام طائرات مسيّرة. وتكثر الحكايات عمن تحولوا إلى مدمني مخدرات داخل السجن نفسه.

ومن ضمن الشهادات التي جمعها معهد واشنطن، قصة "أم حسين" التي باتت تخاف إرسال الأموال لنجلها خوفًا من أن يشتري بها المخدرات. ويضيف سجين سابق أن أنواع المخدرات تتعدد مثل الكوكايين والحشيش والكبتاغون وتتراوح أسعارها ما بين 600 و3000 دولار.

العنف على أساس الجندر والجنسية

رومية أبعد ما يكون عن مكان التأهيل الصالح للفئات الأكثر هشاشة وفق ناشطين . نساء سجن رومية تواجه مضاعفات جسدية ونفسية مزدوجة: ظلم اجتماعي وابتزاز جنسي، ونقص في الرعاية الإنسانية، وفقا للناشطة الإجتماعية ياسمين عالية. وتضيف: "هناك حاجة ماسة إلى مشاريع دعم وتأهيل خاصة بالنساء داخل السجن من برامج صحية، نفسية، وتشريعية. كما أن رفع الغطاء القانوني والاجتماعي ضروري للحماية، إلى جانب تفعيل آليات التحقيق في التحرش والتعذيب المزعوم." كما خلص تقرير للهيئة الوطنية لحقوق الإنسان إلى "أن عدم وجود عناصر إناث للاهتمام بالموقوفات النساء في أماكن التوقيف والاحتجاز التّابعة لقوى الأمن الدّاخلي يزيد خطر تعرّضهنّ للاعتداء اللفظي والجسدي ويتعارض مع مواد المرسوم 14310 حول حقوق النساء المحرومات من حرّيتهنّ ومع قواعد بانكوك." "

وفي سياق العنف على أساس الجنسية، دان تقرير لمنظمة العفو الدولية العنف بكافة أشكاله. وورد في التقرير أن "السلطات اللبنانية انتهكت – من خلال تعريض معظم المحتجزين السوريين للتعذيب أو غيره من ضروب المعاملة السيئة خلال الاستجواب – المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب والحظر المطلق للتعذيب. ويترتب على السلطات – وفق القانون الدولي – واجب منع التعذيب، والتحقيق كلما كانت هناك أسباب معقولة تدعو للاشتباه بحدوث أفعال التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة السيئة، حتى لو لم تُقدم أي شكاوى رسمية، وإحالة المسؤولين إلى العدالة، وتقديم التعويضات إلى الضحايا".

فشل مشاريع الإصلاح

ويعاني السجن من بنية تحتية متدهورة وتجهيزات صحية ناقصة، مما أثار انتقادات متكررة من منظمات حقوقية محلية ودولية. وفاقمت الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي يمر بها لبنان منذ أواخر العام 2019 بتدهور الأوضاع داخل السجن أكثر فأكثر. ووفقا لتقرير لشبكة "هيومن رايتس ووتس"، "على الرغم من تخصيص مبلغ 30 مليون دولار في 2015 لبناء سجن جديد في مجدليا (شمال لبنان)، لم يُبنَ السجن حتى الآن." وينم ذلك عن فشل في الإصلاحات.

ويشكل هذا الواقع "خرقا واضحا لمبدأ التوزيع العادل وأبسط معايير الكرامة الإنسانية. ويعد الاكتظاظ المفرط انتهاكًا لقانون أصول المحاكمات الجزائية، التي تحدّد سقفًا قانونيًا للتوقيف، وللمادة 10 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تلزم باحترام كرامة السجين، وفقا لأحد الحقوقيين. ويأسف هذا الأخير لأن الدولة اللبنانية، تُقِرّ بصمتها عن هذا الواقع، "بواقع احتجاز تعسفي وظروف تفتقر للإنسانية".

ومع ذلك، سجل بعض التقدم لناحية تخفيف الاكتظاظ من خلال تسريع المحاكمات. وأبدت نقابة المحامين مؤخرا، بعد عامين من رفض افتتاح محكمة داخل سجن رومية، والتي تهدف إلى تسريع المحاكمات والحدّ من الاكتظاظ الذي تجاوز 330%، تجاوباً مع وزارة العدل اللبنانية ومجلس القضاء الأعلى لتسهيل افتتاح المحكمة في الأيام المقبلة. وأشارت مصادر مطّلعة إلى أن سلسلة من التسهيلات نُوقشت خلال اجتماعات جمعت وزارتي العدل والداخلية مع النقابة، ما ساهم في تبديد هواجس الأخيرة ومعالجة ملاحظاتها، تمهيداً للانطلاق العملي للمحكمة.

مبنى سجن رومية من الخارج

رومية: من التأسيس إلى الاكتظاظ

وأنشئ سجن رومية بناء على مرسوم صادر بتاريخ 05/04/1971 في العدد 27 من الجريدة الرسمية اللبنانية. وحسب المادة 1، "ينشأ في رومية (قضاء المتن- محافظة جبل لبنان) سجن مركزي، يوضع فيه المحكومون بمختلف الاحكام المبرمة." وهذا السجن هو الأكبر في لبنان ويضم أكثر من ثلثي السجناء في البلاد ككل (والمقدر بأكثر من 8000).

السجن بني على شكل مجمع من الأبنية المنفصلة، خصص كل منها لفئة معينة من السجناء (المبنى أ، المبنى ب، مبنى النساء، مبنى الأحداث والمبنى الأزرق ومحكمة خاصة). ولكن على الرغم من اعتبار التصميم حديثًا في ذلك الوقت، لم يكن مرنًا بما يكفي لاستيعاب التغيرات الأمنية والديموغرافية اللاحقة. وفي حين أن الطاقة الاستيعابية للسجن تبلغ حوالي 1500 سجين، تضاعف هذا العدد ليتراوح ما بين 4000 و 5500 سجين ما بين عامي 2008 و2025 وفقا لتقديرات "هيومن رايتس ووتش". وهو يضم مئات المعتقلين من جنسيات مختلفة، من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين احتجزوا على مدار السنوات الماضية بتهم متنوعة، بعضها نتيجة الأحداث الأمنية في لبنان والصراعات الإقليمية (تحديدا على مستوى السوريين الذي تصدوا لنظام بشار الأسد، وتقدر نسبتهم بـ30% من إجمالي الموقوفين). وتجدر الإشارة إلى إعلان اتفاق يقضي بإعادة 1750 سجينا سوريا من لبنان إلى سوريا في أعقاب اجتماع في دمشق بين رئيس سوريا أحمد الشرع ورئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية آنذاك نجيب ميقاتي كانون الثاني 2025.

وبلغ عدد السجناء الأجانب المنتهية أحكامهم نحو 1250 سجيناً وفقا للدولية للمعلومات، ولا تقتصر المعاناة على الاكتظاظ داخل السجن بشكل غير مشهود في السجون الأخرى في لبنان بل ترتبط بعناصر خارجية أخرى مثل النقص في عدد الحقوقيين وفي عدد القاعات المخصصة للمحاكمات والتوقيف الاحتياطي الذي قد يستمر لأعوام بانتظار تحديد مواعيد المحاكمات.

```