"طلبيات قاتلة"..

الوجه الخفي لشركات التوصيل في العراق

user icon
مصطفى عبد الله (اسم مستعار) وميزر كمال
clock icon
19 أغسطس 2025
background image background image
background image

عندما تعرّض موسى عبد الرضا (26 عاماً) لحادث سير أدى إلى كسر في عظم الترقوة خلال عمله في توصيل طلبات الزبائن، مع شركة توصيل (نتحفظ على ذكر اسمها حفاظاً على سلامته)، زاره في المستشفى شقيقه حسين (20 عاماً)، ليطمئن على صحته. حسين يعمل أيضاً سائق توصيل مع شركة توصيل أخرى، اسمها "طلباتي".

يتذكّر موسى تلك اللحظات بحزن: "بعد ما صحيت من البنج، جاء اتصال إلى والدي الذي كان برفقتي (...) سمعته يقول: يا ستّار، وخرج من المستشفى". تعرض الابن الثاني (حسين) إلى حادث سير كذلك.

حاول موسى الخروج من المستشفى ليطمئنّ على شقيقه حسين، لكن الأطباء منعوه. يقول موسى: "انتظرت حتى الساعة التاسعة صباحاً، وأنا أفكر في كلمة (يا ستار)، بعد ذلك وقّعت على مسؤوليتي للخروج من المستشفى، كانت والدتي ترافقني، ولم نكن نعرف شيئاً عما حدث لحسين".

بعد إلحاح موسى بالأسئلة عن مصير أخيه، علم أن حسين تعرض لحادث سير عنيف، على طريق "سريع القناة"، في العاصمة العراقية بغداد. وعندما ذهب إلى مستشفى جراحة الجملة العصبية التعليمي، حيث يرقد حسين بين الحياة والموت، أخبره الطبيب أن شقيقه في غيبوبة، نتيجة تعرضه لكسور ونزيف في الجمجمة.

"كيف يحصل كل هذا! أنا تعرّضت لحادث في الصباح، وحسين في الليل"، ما يزال موسى غير قادر على استيعاب ما حدث. يضيف موسى واصفاً حالة أخيه: "جسده ما بيه عظم سالم، وضربة الحادث كانت قوية، السيارة التي ضربته متضررة جداً، ودراجته انقسمت إلى جزأين".

ظلّ حسين لمدة 11 يوماً في غيبوبة، حتى فارق الحياة في أيار/مايو 2022، ولم يتجاوز العشرين من عمره.

كان حسين قد بدأ العمل مع شركة "طلباتي"، قبل ثلاثة أشهر من تعرضه للحادث المروري. وبحسب شقيقه موسى، فإن عائلة حسين لا تعلم إن كان فقيدها قد وقّع عقداً مع شركة "طلباتي"، لكنّ موسى ذكر أن أصدقاء شقيقه، الذين يعملون معه في خدمة التوصيل، أخبروه بوجود عقود عمل.

لم تتواصل الشركة مع عائلة حسين، بحسب موسى: "لم يصلنا منها أي شي، ولم يقدموا أي تعويض، أو دعم مالي لنا، باستثناء زيارة واحدة لبيت العزاء قدمت فيها 200 ألف دينار عراقي". واكتفت الشركة بإغلاق سجل قسط الدراجة التي كان يعمل بها حسين، وقد اشتراها بالتقسيط عن طريق شركة "طلباتي"، وذلك من خلال توقيع "كمبيالة" مع الشركة، التي أخذت مستمسكاته الشخصية الأصلية لتكون "التأمين" على الدراجة.

وقد عانى موسى أيضاً بسبب عمله في الشركة؛ فهو لديه عقد عمل، لكنّ الضمان الصحي فيه مشروط بإتمام ألف عملية توصيل.

كان موسى يدرس في كلية الإدارة والاقتصاد، بجامعة الإسراء الأهليّة في بغداد، لكنّه ترك الدراسة بعد تعرضه لحادث السير أثناء توصيله طلباً مع الشركة التي يعمل فيها. وكان شقيقه الراحل قد أنهى المرحلة المتوسطة.

صورة حسين عبد الرضا قبل الإصابة والوفاة
حسين عبد الرضا قبل الإصابة والوفاة (مصدر الصورة: عائلة حسين)
صورة أشعة
صورة أشعة
صورة حسين أثناء العمل في شركة طلباتي
حسين أثناء العمل في شركة طلباتي (مصدر الصورة: عائلة حسين)

يتتبع التحقيق المخاطر القاتلة التي يواجهها سائقو توصيل الطلبات في العاصمة العراقية بغداد، حيث تتكرّر الحوادث وسط غياب تام للضمانات والتأمينات. كما يكشف عن مخالفات قانونية ترتكبها شركات التوصيل (عبر وكلائها، والشركات الوسيطة) في عقود العمل، وانتهاكات تتعلق بإجراءات السلامة، ومخالفات مرتبطة بتوفير الضمان الصحي والضمان الاجتماعي لسائقي الديلفري، بما يعرّض حياتهم للخطر.

قصة حسين لم تكن الوحيدة. من بين 30 شهادة جمعها التحقيق، تبيّن وقوع ثلاث حالات وفاة بين سائقي التوصيل أثناء عملهم، دون أن تحصل أي من العائلات على تعويضات قانونية، أو حتى اعتراف رسمي من الشركات بالمسؤولية عن الحوادث التي تعرضوا لها.

ينص عقد لسائق آخر يعمل في شركة "عالسريع" حصل فريق التحقيق على نسخة منه على: "ليس من حق الطرف الثاني مطالبة الطرف الأول بأي تعويض مادي أو معنوي، أو ملاحقة الطرف الأول قانونياً أو عشائرياً بأي شكل من الأشكال، وفي حال تعرض الطرف الثاني لحادث أثناء تأدية عمله أو بسببه، يُعدّ هذا إقراراً من الطرف الثاني بذلك". 

background image

"كسر ظهرنا بعد موته"، يقول مظفر مهدي، متحدثاً عن ابنه محمد، الذي مات ولم يتجاوز 21 عاماً، إثر تعرضه لحادث سير تحت جسر الدوّار في بغداد، أثناء توصيله طلباً لأحد زبائن شركة "طلبات، يوم 18 أيلول/سبتمبر 2022.



ظل محمد بمستشفى الكاظمية التعليمي يومين يصارع الموت، توفي بعدها متأثراً بإصابات في الرأس والقدم نتيجة الحادث.

يقول والده: "ابني وقّع عقداً مع الشركة، وكان يطلبهم (يدينون له) مبلغ 100 ألف دينار، لم نحصل عليه، ولم يسألنا أحد. لا نملك المال لرفع دعوى، وحتى سائق المركبة الذي تسبّب بوفاة محمد، لم نأخذ منه الفصل العشائري، لأن هذا أمر الله، وشنو أسوي".



صورة محمد مظفر مهدي - سائق توصيل في شركة طلبات يرقد في المستشفى قبل وفاته
محمد مظفر مهدي - سائق توصيل في شركة طلبات يرقد في المستشفى قبل وفاته (المصدر: عائلة محمد)

فراغ تشريعي وهيمنة الفوضى

رغم التوسّع السريع لقطاع التوصيل في العراق خلال السنوات الأخيرة، لا يزال هذا النشاط يعمل خارج نص قانوني محدد؛ إذ لا يوجد حتى اليوم قانون خاص ينظّم عمل شركات التوصيل الحديثة. وتعتمد الجهات الرسمية على "قانون البريد رقم 97 لسنة 1973" المعدّل، الذي وُضع في زمن مختلف، ولا يشمل هذا النوع من الشركات من الأساس.

في عام 2021، صرّح المدير العام السابق للشركة العامة للبريد والتوفير، صفوان جاسم، بأن أكثر من ألف شركة توصيل تعمل خارج مظلة الدولة، مقابل ترخيص نحو ست إلى سبع شركات فقط. وأشار إلى البدء بإجراءات قانونية أفضت لاحقاً إلى إغلاق نحو 50 شركة في بغداد.

لكن عند تسلّم المدير التالي، إدريس خالد عبد الرحمن، منصبه، نشرت الشركة في آب/أغسطس 2022 قائمة تضم 118 شركة ومكتباً مخالفاً، مقابل 44 جهة مرخّصة فقط، ما كشف عن تباين لافت في الأرقام الرسمية، وعرّى هشاشة الرقابة على هذا القطاع، إلى جانب تلكؤ في استجابة الشركات لمتطلبات التسجيل.

في شباط/فبراير 2023، أُعفي إدريس من منصبه، وجرى تكليف زينب عبد الصاحب عبود بإدارة الشركة. وبعد أسبوعين فقط، وجّهت الشركة تعميماً يدعو جميع الشركات المرخّصة إلى تقديم "براءة ذمة" من دائرة الضمان الاجتماعي خلال شهر واحد، لكن المهلة انقضت من دون إعلان أي نتائج أو اتخاذ إجراءات ضد الشركات المخالفة.

background image

"عقود فاسدة و شروط إذعان"

من أصل 30 سائقاً، أفاد خمسة منهم بأنهم يعملون دون توقيع عقود، فيما قال البقية إنهم وقّعوا عقوداً دون أن يُمنحوا نسخاً منها. فريق التحقيق حصل على نسخ من أربعة عقود من شركات: "عالسريع"، "وتوترز"، "وطائر الخدمة"، إضافة إلى شركة "الإبداع المستمر" التابعة لـ "طلبات".

هذه العقود تكشف نمطاً موحداً من التخلّي الكامل عن المسؤولية، رغم أن هذه الشركات مسجّلة لدى وزارة التجارة.

يتضح من عقد تطبيق "توترز" مثلاً -المملوك لـ "شركة المدى للتسويق"- غياب أي حقوق حقيقية للعامل، إذ يقتصر دور الشركة على ربطه بقاعدة بياناتها وتمكينه من استقبال الطلبات.

أما البند الخامس في العقد، فيُحمّل العامل وحده كامل المسؤولية القانونية والعرفية والعشائرية عن أي ضرر قد يتسبّب به أثناء العمل، دون أي التزام من الشركة تجاهه أو تجاه عائلته، وهذا ينطبق على جميع السائقين الموقعين للعقود.

يعتمد نظام الأجور في شركة "توترز" على نظام "القطعة"، بحيث يتقاضى السائق 2000 دينار عراقي (نحو 1.5 دولار) عن كل طلب توصيل في نطاق 4 كيلومترات، مع إمكانية الحصول على مكافآت تُقسم إلى ثلاث فئات: الفضي، والذهبي، والماسي. وتُمنح الفئة الماسية لمن ينجز 150 طلباً أسبوعياً، أي ما يعادل 21 طلباً يومياً، ليحصل مقابل ذلك على مكافأة إضافية قدرها 1200 دينار (نحو 0.9 دولار) لكل توصيلة.

غير أن الوصول إلى هذه المكافأة يتطلب من السائقين تسريع وتيرتهم في العمل بشكل كبير، ما يعرّضهم لمخاطر كبيرة في شوارع بغداد المكتظة.

صور وثائق
صور وثائق
صور وثائق
صور وثائق

عقد شركة "طائر الخدمة"، يلقي بالمسؤولية كاملة على السائق في حال الحوادث، حتى في حالة الوفاة، دون أي التزام بالتعويض. ويكتفي العقد باعتبار العمل "خدمة" مقابل أجر، ويفرض على السائقين دفع تأمينات بنسبة واحد بالمئة من الراتب، لقاء استخدام أدوات الشركة، مثل الملابس وصندوق التوصيل.

أما عقد شركة "الإبداع المستمر"، فلا يتضمن أي حقوق للعامل، بل يركّز فقط على المهام والالتزامات الواجب تنفيذها.



عرض فريق التحقيق نسخ العقود على المحامي وليد الشبيبي، عضو نقابة المحامين العراقيين، فوصفها "بالعقود الفاسدة"، ضمن التصنيف القانوني للعقود: الصحيحة، والباطلة، والفاسدة. وأوضح أن هذه العقود تنتمي إلى ما يُعرف بـ "عقود الإذعان"، لكنها تتجاوزها في شدة الشروط المجحفة.

ويؤكد الشبيبي على وجوب مراجعة الطرف الأول (الشركة) للدوائر المختصة في الدولة لحفظ حقوق الطرف الثاني، متسائلاً: "هل قاموا بذلك؟ واضح لا".

كما حمّل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية مسؤولية غياب الرقابة على هذه الشركات، مشدداً على أن قانون العمل الحديث وقانون التقاعد والضمان الاجتماعي للعمال يمنعان تنصل الشركات من مسؤولياتها، وأن أي عامل "دليفري" يتعرض لحادث أثناء العمل تحق له المطالبة بالتعويض، حتى لو حاولت الشركة التهرب عبر عقود مخالفة.

وزارة العمل تعترف: عقود باطلة

في تعليقه على عقود العمل بين شركات التوصيل والعمال، يقول المستشار القانوني في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، صدام نعمة، إن هذه العقود تُعد باطلة بحسب قانون العمل؛ فأي تصرف يحرم العامل من حقوقه وامتيازاته يُعد باطلاً.

وأشار إلى أن العامل لديه الحق في تقديم شكوى إلى الوزارة، حيث تنظر لجان مختصة بدائرة العمل والتدريب المهني في هذه الشكاوى، وفي حال تعذر حل النزاع، يمكن رفع دعوى أمام "محاكم العمل" المتخصصة.

وأوضح نعمة أن شركات التوصيل تتجنب تسجيل العمال في الضمان الاجتماعي، لتفادي دفع الاشتراكات الشهرية، التي تصل إلى 12 بالمئة من أجور العاملين، مضيفاً أن وزارة العمل "لا تشرف على بنود العقود الموقعة بين الشركة والعامل، لكنّها يجب أن تكون متوافقة مع قانون العمل".

وعند سؤاله عن تسجيل شركات مثل "طلباتي"، "والمدى"، أجاب نعمة بأنها "غير مسجلة".

وجبات مُؤمّنة.. وسائقون بلا تأمين

في إحدى ليالي آب/أغسطس 2024، كان السائق (س. ف) البالغ 19 عاماً، يقود دراجته النارية خلال الشفت الليلي (نوبة عمل ليلية) مع شركة "توترز" للتوصيل، بعد توصيل طلب لأحد الزبائن في منطقة الإعلام بالعاصمة بغداد. صدمته دراجة نارية وفقاً لشهادة شقيقه (ح. ف)، ليسقط السائق على وجهه ويتعرض لتهشم في الفك.

(س. ف) يرقد في المستشفى قبل وفاته
(س. ف) في المستشفى (المصدر- عائلته)

"وجدته غارقاً في دمائه يصرخ، والناس ترفض مساعدته"، يروي (ح. ف) كيف سارع لنقله إلى مستشفى اليرموك التعليمي، حيث خضع لعدة عمليات جراحية، واضطرّت عائلته إلى شراء البلاتين من السوق، في ظل غياب أي دعم من الشركة. تجاوزت كلفة العلاج 15 ألف دولار، تحملت العائلة نصفها. ورغم علم "توترز" بالحادث، لم ترسل حتى رسالة اطمئنان. يقول شقيقه: "ما استلمنا منهم أي مساعدة، لا علاج، ولا تعويض، ولا حتى كلمة (الحمد لله على السلامة)".

(س. ف) يرقد في المستشفى قبل وفاته
(س. ف) يرقد في المستشفى (المصدر- عائلته)

يعمل الشقيقان مع "توترز"، لكنهما لم يحصلا على أي أدوات حماية، ولم يخضعا لأي تدريب (حتى وقت إجراء المقابلة في تشرين الأول/أكتوبر 2024)، ولا يُشترط حتى امتلاك رخصة قيادة. بالإضافة إلى تأخر الرواتب لخمسة أيام، وقد يصل إلى أسبوع، بحسب (ح. ف)، الذي اضطر إلى ترك العمل فترة لرعاية شقيقه المصاب. وعندما قرر العودة إلى العمل، فوجئ بمحاولة الشركة إنهاء خدماته: "قلت لهم أنتم تعرفون إحنا نشتغل وياكم، ومن شهر إحنا بالمستشفى، وبعد ما توسلت إلهم وافقوا يرجعوني للشغل".

(س. ف) يرقد في المستشفى قبل وفاته
(س. ف) يرقد في المستشفى (المصدر عائلته)

(س. ف) على سرير العلاج بعد إصابته خلال عمله مع شركة "توترز"

قصة (س. ف) ليست استثناء؛ ففي تشرين الأول/أكتوبر 2024، تعرّض مصطفى أحمد (22 عاماً)، وهو سائق توصيل آخر يعمل مع "توترز" في بغداد، لحادث مروري في منطقة الكرادة، بعد أن صدمته سيارة وهرب سائقها. أصيب مصطفى بكسر في اليد اليمنى وخدوش في القدم واليد اليسرى. "زملائي نقلوني إلى مستشفى الشيخ زايد العام، أما الشركة، فلم يحاول أي من مسؤوليها الاتصال أو الاطمئنان، ولا حتى زيارة"، بحسب مصطفى.

مصطفى أحمد سائق توصيل في شركة توترز أثناء نقله إلى المستشفى
مصطفى أحمد سائق توصيل في شركة توترز أثناء نقله إلى المستشفى (المصدر- مصطفى)

بدأ مصطفى عمله في أيلول/سبتمبر 2024، ويتهم الشركة بعدم تحملها أي مسؤولية عن الحوادث التي يتعرض لها السائقون: "إذا الطلب تضرر أثناء الحادث، الشركة تدفع قيمته فقط، أما السائق، فليس له شيء".

صورة مصطفى أثناء وجوده في المستشفى بسبب الإصابة
مصطفى أثناء وجوده في المستشفى بسبب الإصابة (المصدر- مصطفى)


هذه الحوادث تسلط الضوء على منظومة عمل تفتقر إلى شروط السلامة والحقوق. شهادات عديدة حصل عليها فريق التحقيق تكشف أن شركات توصيل، من بينها "توترز"، ترفض إعطاء السائقين نسخة من عقد العمل، أو حتى السماح لهم بتصويره. كما لا تنظم دورات مرورية أو تدريبية، رغم طبيعة العمل عالية الخطورة.

وبينما لا توجد أية بنود تحمي السائقين، تتضمن العقود شروطاً تُحمّلهم المسؤولية الكاملة عن أي ضرر يلحق بالطلب. فشركة "المدى"، المالكة لتطبيق "توترز"، تحمّل السائق مسؤولية أي تلف أو نقص أو ضرر يصيب المادة المنقولة، وعليه دفع التعويض.

نسخة من عقد شركة توترز: حصلنا عليه من أحد العاملين في الشركة.

تحايل لغوي على حقوق العمّال

تلجأ شركات توصيل في العراق إلى التلاعب بمصطلحات العقود المبرمة مع سائقي الدراجات، عبر استخدام توصيفات مثل "مقاول" أو "سائق مستقل" بدلاً من "عامل" أو "سائق دراجة". هذا التلاعب، كما يوضح المحامي المتخصص في قضايا العمل محمد حازم، يسمح للشركات بالتنصل من الالتزامات التي يفرضها قانون العمل، مثل تحديد ساعات الدوام، ومنح الإجازات، وتوفير شروط السلامة المهنية، والأمان الوظيفي، وحتى ضمانات التقاعد.

يؤكد حازم أن هذه الصياغات تمثل "حيلة قانونية" تهدف إلى تحويل العلاقة بين الشركة والسائق إلى علاقة تعاقد مدني، ما يُخرجها من نطاق قانون العمل، ويحرم السائقين من أبسط حقوقهم. ويضيف: "عندما لا تُستخدم في العقد صفة (عامل أو موظف) للطرف الثاني، فإن الشركة تخرجه قانونياً من دائرة حماية قانون العمل، وهذا بحد ذاته مخالفة".

ويتابع حازم بأن مثل هذه العقود، التي تُصاغ كـ "عقود مدنية"، لا تشمل ضماناً صحياً أو تأميناً على الحياة، ولا تلتزم بساعات عمل محددة، وهو ما يجعل العامل عرضة للاستغلال، في ظل غياب الرقابة وضعف الوعي القانوني لدى كثير من السائقين، الذين يقبلون بهذه الشروط بدافع الحاجة إلى العمل.

الأخطر، بحسب حازم، هو أن هذه الحيلة لا تكتفي بإخراج العلاقة التعاقدية من اختصاص محاكم العمل، بل تنقل النزاع –إن حصل– إلى "محاكم البداءة" المدنية، حيث تكون فرص السائق في المطالبة بحقوقه أضعف. ويختم بالقول: "حتى مع هذا التحايل، فإن الشركات ترفض إعطاء العمال نسخة من العقد، لتمنعهم من استخدامه كوثيقة قانونية ضدها، وهو انتهاك إضافي".


background image

الشركة نفسها لكنّ الحقوق مختلفة

تُظهر المقارنة بين نظام عمل شركة "طلبات" في العراق –التابعة لمجموعة "Delivery Hero" الألمانية– ونظام عمل الشركة الأم في ألمانيا، تبايناً واضحاً في الالتزام بالمعايير القانونية وحقوق العاملين، خاصة سائقي التوصيل.

في العراق، تعتمد "طلبات" نموذج العمل الحر (gig work)، حيث تُبرم مع السائقين (عبر شركة الإبداع المستمر)، عقود تخلو من أي التزامات تتعلق بالضمان الصحي أو الاجتماعي، ما يُسقط عن الشركة أي مسؤولية تجاه سلامتهم أو مستقبلهم المهني.

في المقابل، كانت "Delivery Hero" في ألمانيا، عبر علامتها التجارية "Foodora"، تتبع نموذج التوظيف الرسمي. ففي بيان عام 2018، أكدت الشركة أن جميع سائقيها موظفون بعقود تضمن لهم التأمين الصحي، والتقاعد، وتأمين الحوادث، والرعاية الاجتماعية، إذ تتحمل الشركة التكاليف غير المتعلقة بالأجور، مثل أي جهة توظيف تقليدية.

رغم ذلك، لا تخلو سيرة عمل الشركة من الانتقادات حتى في أوروبا، خصوصاً رفضها اعتماد نظام الأجور الجماعية (Tariflöhne) في ألمانيا. أما في إسبانيا، فقد تلقت شركة "Glovo" -وهي فرع "Delivery Hero" هناك- غرامة مالية من قبل الحكومة الإسبانية، فقررت الشركة تحويل سائقي التوصيل إلى موظفين دائمين، ما كبّد الشركة خسارة بنحو 100 مليون دولار نهاية عام 2024.

وفي بيان توضيحي، قالت "Delivery Hero" إن "Glovo" غيّرت نموذج التوظيف لتجنّب التبعات القانونية. من جهتها، علّقت وزيرة العمل الإسبانية يولاندا دياز قائلة: "لا توجد شركة كبيرة فوق القانون. الديمقراطية تنتصر. الشاب الذي يحمل هاتفاً في يده ليس رائد أعمال".

كما واجهت الشركة انتقادات في دول أخرى مثل تايلاند والبرازيل، بسبب تدنّي الأجور، والفصل التعسفي، وغياب معدات السلامة.





نقابة جديدة لتنظيم قطاع التوصيل

أُسّست "نقابة عمّال التوصيل" في عام 2024، بهدف تنظيم القطاع وضمان حقوق الزبائن والسائقين والشركات ضمن إطار قانوني، بحسب ما أكده النقيب مرتضى إسماعيل الذي أشار إلى أن العلاقة التعاقدية القائمة حالياً تُعد "عقد إذعان" يصب في مصلحة الشركات فقط؛ فلا يُمنح السائقون نسخاً من عقودهم، وبعض الشركات تطلب منهم توقيع "براءة عشائرية" ترفع عنها المسؤولية في حال تعرض السائق لأي ضرر أثناء العمل.

في محاولة لتأطير العمل النقابي، أطلقت النقابة استمارة إلكترونية، انضم من خلالها 500 سائق حتى الآن. كما شكّلت لجنة قانونية تضم محامين للتواصل مع وزارة العمل بشأن إقرار الضمان الاجتماعي، وتعديل صيغة العقود. ويؤكد إسماعيل تكتم الشركات على العقود، ورفضها إطلاع النقابة أو الجهات الرسمية عليها، لأنها "لا تضمن أي حق للطرف الثاني، وتُلقي كامل المسؤولية على السائق".

ورغم توسّع هذا القطاع، لا تتوفر بيانات رسمية عن عدد سائقي التوصيل في العراق، أو حتى في بغداد. ويُعزى غياب هذه الإحصاءات إلى ضعف الرقابة الحكومية على هذه الشركات، التي تتعمّد بدورها عدم تسجيل العاملين لديها في دوائر الضمان الاجتماعي والصحي، تهرّباً من الالتزامات القانونية والضريبية.

background image

حين تتحول السرعة إلى شعار تجاري

في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أطلقت شركة "توترز" إعلاناً ترويجياً في العراق بعنوان "دوسلها يا توترز"، وهي عبارة باللهجة العراقية تعني "زد السرعة". يتناول الإعلان سباقاً غير قانوني في الشوارع، يظهر فيه سائق توترز متفوقاً على آخرين يمتلكون دراجات قوية وأجساداً رياضية، ليرسخ فكرة أن السرعة هي مفتاح التفوق في التوصيل.



شكاوى وحوادث سائقي الديلفري التي ينشرونها في مجموعات الواتساب والفيسبوك


لم يكن هذا الإعلان الوحيد الذي يروّج لهذا السلوك؛ إذ استغلت شركة "طلبات" لاحقاً "تريند" يتضمن رقصة "الهوسة" ومقولة تهديدية شهيرة، وأنتجت إعلاناً يُظهر شاعراً شعبياً يتوسط مجموعة من سائقيها مردداً: "الطلب يوصل بسرعة.. ثواني (ثوانٍ) وهورن ببابك تسمعه"، (في رسالة واضحة تفضّل السرعة على حساب معايير السلامة).

شكاوى وحوادث سائقي الديلفري التي ينشرونها في مجموعات الواتساب والفيسبوك

يعلّق نقيب عمّال التوصيل، مرتضى إسماعيل، على هذه الإعلانات قائلاً إن الشركات تُحمّل السائقين ضغطاً غير مباشر لزيادة السرعة على حساب السلامة المرورية، وذلك من خلال أنظمة الأجور والمكافآت التي ترتفع كلما زاد عدد الطلبات اليومية أو الأسبوعية المُنجَزة. ويرى أن هذه السياسات تُحفّز السائقين على التسابق مع الزمن، في شوارع تعاني أصلاً اختناقاً مرورياً وبنية تحتية غير مهيّأة.



ردود الشركات

تواصل فريق التحقيق مع خمس شركات توصيل في العراق وردت أسماؤها في التحقيق، وهي: شركة طلبات للتوصيل السريع، وشركة توترز، وشركة عالسريع (أطباق الديرة)، وشركة بريق النهرين لخدمات التوصيل (بلي)، وشركة طلباتي.

واجه فريق التحقيق هذه الشركات من خلال إرسال رسائل إلكترونية وتسليم خطابات رسمية صادرة عن "أريج" إلى مكاتبها في بغداد. ردت شركتان فقط على أسئلتنا، فيما لم نتلقَّ رداً من ثلاث شركات.



 شركة توترز

 شركة توترز

أرسلت الشركة رداً عبر إيميل "أريج"، تضمن خطاباً عاماً وإنشائياً من دون تقديم إجابات محددة على الأسئلة الموجهة لها. وقالت في ردها، إنها "تحرص على تزويد السائقين بمعدات السلامة الأساسية كافة مثل الخوذ الواقية، كما نشجعهم على الالتحاق ببرنامج تدريبي ميداني يمتد لثلاثة أيام، بهدف تعزيز جاهزيتهم وترسيخ ثقافة السلامة المرورية لديهم".

كما قالت إنها ملتزمة بالقوانين والأنظمة العراقية، بما في ذلك قانون العمل وقانون الضمان الاجتماعي.

لم توفر الشركة أي أدلة تثبت حقوق العاملين أو تسجيلهم في قاعدة الضمان الاجتماعي أو الصحي.

ختمت "توترز" ردها قائلة: "نؤمن بأن نجاحنا مرتبط بنجاح شركائنا، من السائقين المتعاقدين، إلى المطاعم والمتاجر وآلاف الموظفين العاملين فيها، وصولاً إلى الزبائن الذين نعتز بثقتهم بشكل يومي. وانطلاقاً من هذا الإيمان، نواصل الاستثمار في تطوير قطاع التكنولوجيا في العراق، وتوسيع فرص النمو الاقتصادي التي تسهم في دفع عجلة النمو على مستوى الوطن".

طلبات

شركة طلبات

لم يتم الرد

شركة بلي

شركة بلي

لم يتم الرد

شركة طلباتي

شركة طلباتي

تواصل مدير المكتب الإعلامي في شركة "طلباتي"، مصطفى التركماني، مع فريق التحقيق، مستفسراً في البداية عما إذا كانت "أريج" جهة أمنية. ثم أنكر وجود السائقين الذين وثّقنا قصصهم ضمن كادر الشركة.

حمّل التركماني السائقين مسؤولية عدم تسجيلهم في الضمان الصحي، قائلاً في رسائل صوتية عبر تطبيق واتساب، إن الشركة دعتهم مراراً إلى التسجيل، لكنهم رفضوا ذلك. وأرفق صوراً لمنشورات على صفحة الشركة في فيسبوك تعود إلى عام 2021، تظهر دعوات موجهة للسائقين للتسجيل في الضمان الاجتماعي.

غير أن تدقيق فريق التحقيق أظهر أن تلك المنشورات تعتمد على نموذج هوية صادر عن "النقابة العامة للخدمات الاجتماعية والسياحية"، وهي جهة لم نتمكن من العثور على صفحات رسمية أو موقع إلكتروني خاص بها.

كما قدم التركماني منشوراً آخر صادراً عن "الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق"، لكنه لم يرفق أي مستندات رسمية تثبت تسجيل السائقين العاملين مع "طلباتي" في الضمان الصحي أو الاجتماعي. ودعا "أريج" إلى زيارة مقر الشركة في بغداد، أو إرسال مندوب عنها، للحصول على "الرد المناسب".

شركة عالسريع

شركة عالسريع

لم يتم الرد





يوميات سائقي الديلفري

تتسع دائرة المشكلات التي يواجهها سائقو التوصيل في بغداد، مع عدم وجود تنظيم حقيقي يضبط العلاقة بينهم وبين شركات التوصيل. جميع السائقين الذين التقاهم فريق التحقيق أكدوا أن الشركات التي يعملون بها، لا تشترط تسجيل الدراجة النارية لدى دائرة المرور؛ ما يخلق حالة من الفوضى في الشوارع، ويزيد من المخاطر على السائقين والمارة، فضلاً عن التأثير السلبي في انسيابية الحركة المرورية.

ولتجنّب المخالفات وحملات الحجز التي تنفذها شرطة المرور ضد الدراجات غير المسجلة، ابتكر السائقون أساليب -من بينها إنشاء مجموعات على "واتساب" و"فيسبوك"- لتبادل مواقع مفارز المرور ونقاط التفتيش، في محاولة لتفادي حجز دراجاتهم.

لكن هذه المجموعات الرقمية تحولت إلى ما يشبه سجلاً يومياً لمعاناة سائقي "الديلفري"، حيث توثق عشرات المحادثات حالات "إنهاء خدمات"، وتأخيراً في الرد من مراكز الدعم، وشكاوى من طول المسافات، بالإضافة إلى توثيق الحوادث المرورية التي يتعرض لها السائقون خلال أداء عملهم. وقد حصل فريق التحقيق على أرشيف واسع من هذه المحادثات، التي تقدم تصوراً عن طبيعة الضغوط اليومية التي يعيشها هؤلاء العمال.


شكاوى وحوادث سائقي الديلفري التي ينشرونها في مجموعات الواتساب والفيسبوك

شكاوى وحوادث سائقي الديلفري التي ينشرونها في مجموعات الواتساب والفيسبوك
شكاوى وحوادث سائقي الديلفري التي ينشرونها في مجموعات الواتساب والفيسبوك
شكاوى وحوادث سائقي الديلفري التي ينشرونها في مجموعات الواتساب والفيسبوك
شكاوى وحوادث سائقي الديلفري التي ينشرونها في مجموعات الواتساب والفيسبوك


ولا تقتصر المشكلات على الشارع فقط؛ فمكاتب الشركات التي تنتشر في مناطق سكنية داخل بغداد، غالباً ما تكون عبارة عن "كرفانات" معدنية جاهزة، تفتقر إلى أبسط معايير السلامة المدنية. وتُستخدم هذه المكاتب عادة لاستقبال طلبات التوظيف الجديدة.

بالنسبة للشركات، لا يتعدّى الأمر كونه "عقد عمل" يمكن إنهاؤه في أي لحظة. لكن بالنسبة للضحايا وعائلاتهم، فالأمر أكبر من ذلك بكثير، إذ يتحول إلى فقد دائم ومعاناة لا تنتهي. فعائلة محمد مظفر -التي فقدت ابنها بعد أن تعرّض لحادث سير أثناء عمله لصالح شركة "طلبات"- لم تتلقَّ راتب ابنها، رغم وعود الشركة. يقول شقيقه: "راتب محمد ما انطته الشركة لنا، انوب ينطونا تعويض!".

بعد الحادث، منعت العائلة ابنها رضا من استخدام الدراجات النارية خوفاً من تكرار الفاجعة. ويؤكد رضا أن أحد أصدقاء محمد، الذي كان يعمل معه في الشركة نفسها، فقد ساقه في حادث مشابه، قائلاً: "المشكلة ما صارت بس ويّا محمد... ويّا هواي صارت".

هذه المعاناة تتكرر أيضاً في قصة عائلة حسين عبد الرضا، الذي توفي في حادث مروري أثناء عمله في شركة "طلباتي"، بينما نجا شقيقه موسى في اليوم ذاته من حادث آخر، أثناء عمله في شركة أخرى.

يقول موسى: "لمن أطلع للشغل، أفكّر وأشعر بالخوف من تكرار ما تعرض له حسين بأي لحظة".

ورغم ذلك، ما يزال يعمل سائق توصيل، لأنه لم يجد فرصة عمل بديلة. ويصف هذه المهنة بأنها "أخطر من العمل العسكري"، مطالباً الدولة بإلزام الشركات بمنح السائقين ضماناً صحياً واجتماعياً يحفظ حياتهم وحقوقهم.

أنجز هذا التحقيق بدعم من أريج وبالتعاون مع "جمار"