كليرمونت – تلك المدينة الفرنسية الهادئة التي تسحرك منذ اللحظة الأولى بمزيجها المتناغم بين التراث والعصرانية. حين تحط الرحال فيها تشعر أنك أمام لوحة نابضة بالحياة، تروي حكاية مدنٍ تعرف كيف تحافظ على تاريخها، وهي تتقدّم بثقة نحو المستقبل.
كنت سعيدًا بزيارة هذه المدينة للمشاركة في مؤتمر شبكة التنمية العالمية (GDN)، وسعادتي تضاعفت عندما علمت أنني الصحفي العربي الوحيد المدعو للمؤتمر، ممثلاً لـ منصة عابر – صحافة لأجل الإنسان، وهي منصة صحفية فتية تسعى لمواكبة التحولات الرقمية وتضع حقوق الإنسان في صميم رسالتها الإعلامية.
في طريقي إلى مقر المؤتمر في Hall 32، عبر مترو كليرمونت المزدحم بأصوات العرب من أبناء الجالية، تعرّفت على باحثة من الهند وأكاديمي من باكستان. بدأنا نتحدث عن بلداننا المثقلة بالأحداث والصراعات، وكيف يمكن للعلم والبحث أن يقدما حلولاً واقعية تتجاوز الشعارات السياسية. كانت تلك المحادثة الصغيرة بمثابة تمهيد لروح المؤتمر ذاته.
مع انطلاق الجلسة الافتتاحية التي رحب فيها رئيس المؤتمر بالمشاركين، ركّز في كلمته على شعار هذا العام: "التحول الرقمي الشامل: الآثار الاجتماعية والابتكارات التكنولوجية."
كنت أتساءل في طريقي إلى كليرمونت عن العلاقة بين حقوق الإنسان والتحول الرقمي، وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تخدم الإنسان لا أن تهمشه. لكن منذ الجلسة الأولى بدأت تتضح الصورة: كل ما في المؤتمر كان يُختزل بالأرقام والبيانات التي تكشف واقعنا الإنساني كما هو — بلا تجميل.
تحدث الخبراء عن الأمية، والصحة، والتعليم، والمساواة في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. كانت الأرقام صادمة أحيانًا، لكنها ضرورية لفهم عمق المشكلة. فكما قيل هناك: "لا يمكن معالجة ما لا يمكن قياسه." العلم والبحث هما الطريق الأقصر نحو الحلول الواقعية، لأنهما يختصران سنوات من التجارب في معادلات وبيانات يمكن الاستفادة منها فورًا.
بوصفي صحفيًا من الشرق الأوسط، شعرت في البداية ببعض الغربة وسط العشرات من الباحثين وصناع السياسات وممثلي القطاعين العام والخاص من شتى أنحاء العالم. لكن تلك الغربة تحولت سريعًا إلى يقظة مهنية. أدركت أننا – كصحفيين عرب – نغوص في معاناة الإنسان وننقل صوته، لكننا نادرًا ما نتواصل مع الباحثين أو نستند إلى نتائجهم.
في مؤتمر كليرمونت، فهمت أن الأبحاث ليست مجرد أوراق أكاديمية، بل هي مفاتيح لفهم أزماتنا الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية. كثير من تلك الأبحاث تمرّ علينا دون أن ننتبه لها، رغم أنها تحمل إجابات جاهزة لما نطرحه يوميًا من أسئلة في الصحافة والإعلام.
لم يغفل المؤتمر الحديث عن الذكاء الاصطناعي ودوره المتزايد في تشكيل المستقبل، مع طرح تساؤلات عميقة حول أخلاقياته ومخاطره. كيف يمكن لهذه التقنيات أن تعزز التنمية، دون أن تُفاقم التمييز أو تُهدد الخصوصية؟ كانت الإجابات متنوعة، لكنها اتفقت على شيء واحد: لا يمكن فصل التكنولوجيا عن الإنسان، ولا التنمية عن القيم.
في اليوم الأخير، جرى توزيع جوائز التنمية العالمية، حيث فازت ثلاث دراسات بحثية من إفريقيا بلقب الأفضل:
غادرت كليرمونت وأنا على يقين بأن ما يحدث في هذه المؤتمرات لا يجب أن يبقى داخل القاعات. هناك كنز من المعرفة والأرقام ينتظر من يسلط عليه الضوء.
ربما تكون البداية من هنا: أن نعيد تعريف الصحافة، لا كحكاية تُروى، بل كجسر بين الإنسان والعلم، بين المعلومة والحل.