“عابر” في كوالالمبور… أربعة أيام تهزّ عالم التحقيقات: ما الذي تغيّر في GIJC25 ؟

كوالالمبور – عابر

في مدينةٍ لا تهدأ، حيث يختلط ضجيج المترو برائحة المطر الاستوائي، احتشد أكثر من 1500 صحفي استقصائي من 135 دولة في العاصمة الماليزية بين 21 و24 نوفمبر/تشرين الثاني. لم يكن مؤتمر الصحافة الاستقصائية GIJC25 مجرد ملتقى مهني آخر؛ بل بدا كأنه مختبر عالمي للأفكار، وساحة يلتقي فيها الخوف بالأمل، والشغف بالحقيقة مع الحاجة المُلحّة لحمايتها في زمن مضطرب.

منذ الساعات الأولى، تشكل انطباعٌ لا يُخطئه أحد:

هذا ليس مؤتمرًا… هذا مستقبل للصحافة يولد من جديد.

ماريا ريسا: إذا رحلت الحقيقة… رحلت الديمقراطية

بدأت الفعاليات بخطاب نادِر الحِدّة للصحفية الفلبينية الحاصلة على نوبل للسلام ماريا ريسا. لم تكتفِ ريسا بالاحتفاء بالمشاركين، بل قرعت جرس إنذار شديد الوضوح:

صعود التضليل، تحالف السلطة مع الشركات الكبرى، التهديد المباشر لحرية الصحافة، وتراجع قدرة غرف الأخبار على الصمود.

رسالتها اختُصرت بجملة بقيت تتردد طوال أيام المؤتمر:

«إذا اختفت الحقيقة… اختفت الديمقراطية.»

وعقب خطابها، انطلقت سلسلة جلسات تمهيدية صُممت لمنح المشاركين خريطة واضحة لما ينتظرهم: ورش تحقيق، نقاشات عابرة للقارات، وأدوات تقنية تُغيّر قواعد اللعبة

استقصاء بلا حدود… وخرائط جديدة للتعاون الدولي

خصص المؤتمر مساحة واسعة للحديث عن العمل الاستقصائي العابر للحدود.

عرضت جلسة “كيف تُبنى الشبكات الدولية؟” نماذج خطفت انتباه المشاركين: غرف أخبار من أربع أو خمس دول تعمل على ملف واحد رغم اختلاف اللغات والقوانين.

وتواصلت ورش البيانات لتقدّم أدوات عملية لاستخراج قواعد البيانات المفتوحة، وتحليل الأنماط التي تشير إلى فساد أو سوء إدارة.

أما فعالية التواصل المهني، فكانت فرصة ذهبية جمعت مئات الصحفيين لتأسيس شراكات لمشاريع قد تغير شكل تغطية قضايا معقدة خلال السنوات المقبلة.

جائزة الضوء الساطع… عندما يصبح التحقيق مقاومة

في مساء 23 نوفمبر، عاش المشاركون واحدة من أكثر لحظات المؤتمر تأثيرًا: إعلان نتائج Global Shining Light Award 2025، الجائزة التي تُمنح للتحقيقات المنجزة في بيئات يسودها الخطر والقمع، وتُعد واحدة من أعلى مراتب التقدير في الصحافة الاستقصائية العالمية.

هذا العام، كرّم الحفل تحقيقات دفعت ثمن الحقيقة من حياة أبطالها ومصادرهم:

  • من المكسيك: تحقيق كشف تهريب البشر داخل شاحنات بضائع، ما أجبر السلطات على ملاحقة الشبكات المتورطة.
  • من بيرو: “رحلات الموت” الذي وثّق عمليات تصفية زعماء السكان الأصليين على يد عصابات المخدرات.
  • من مصر: تحقيق “الفخ الروسي” لموقع مصراوي، الذي فضح تجنيد شباب مصريين للقتال في نزاعات خارجية مقابل إغراءات مالية.
  • من نيجيريا: وثائقي “أتباع” الذي اخترق طائفة دينية مغلقة وكشف انتهاكات نفسية وجسدية رغم التهديدات.

وبينما صعد الفائزون هذا العام إلى منصة التكريم، كان للحضور العربي لحظة استرجاع خاصّة؛ إذ يُذكّر المؤتمر دائمًا بأن هذه الجائزة سبق أن حملها صحفيون عرب استطاعوا اختراق جدران الفساد رغم المخاطر.

وهنا برزت الإشارة إلى أن رئيس تحرير منصة “عابر”،الصحفي الاستقصائي أسعد الزلزلي، كان أوّل عربي يفوز بجائزة الضوء الساطع عام 2017 عن تحقيقه الشهير “المشروع رقم واحد”؛ التحقيق الذي كشف ضياع مئات ملايين الدولارات المخصّصة لبناء المدارس في العراق، وفضح شبكات من المقاولين المتواطئين مع مسؤولين حكوميين، ما جعله واحدًا من أهم التحقيقات التي غيّرت الوعي العام بملف الفساد في قطاع التعليم آنذاك.

لقد جاءت استعادة هذه اللحظة كتذكير بأن الصحافة العربية، رغم القيود، قادرة على الوصول إلى المنصّات العالمية عندما تتسلّح بالشجاعة والمهنية.

“عابر”: حضور عربي يترك بصمة

ضمن الحضور العربي، كانت مشاركة منصة “عابر” مثمرة عبر وجود رئيس التحرير أسعد الزلزلي و الصحفي محمد السوداني .

لم تكن المشاركة بروتوكولية، بل حملت طابعًا مهنيًا مكثفًا:

  • حضور جلسات متخصصة
  • لقاء مؤسسات دولية
  • البحث عن شراكات لتحقيقات عابرة للحدود
  • الاطلاع على أحدث الأدوات المستخدمة عالميًا

وجود “عابر” في هذا المحفل العالمي أضاف صوتًا عربيًا حاضرًا في نقاشات تُعيد تشكيل مستقبل المهنة، وفتح أبواب تعاون قد تغيّر شكل المشاريع القادمة.

ختام على شكل بداية…

اختتم GIJC25 أعماله بتأكيد أن العالم يتغير بأسرع مما نتخيل، وأن الصحفي اليوم يقف في مواجهة أمواج التضليل والفساد والرقابة.

لكن ما خرج به الجميع من كوالالمبور كان واضحًا:

المعركة لم تنتهِ… والصحافة الاستقصائية هي خط الدفاع الأخير.

ومع كل أداة جديدة، وكل شراكة، وكل قصّة تُروى… يقترب العالم خطوة من الحقيقة التي يستحقها.