الخوف من «الاختلاط » يفقد اليمنيات فرص التعليم الجامعي

يشهد واقع آلاف الشابات اليمنيات تعقيدًا متزايدًا، إذ أثقلت سنوات الحرب كاهلهن، وتواصل الأعراف والتقاليد الاجتماعية الصارمة تقييد خياراتهن التعليمية، خصوصًا في المناطق الريفية والقبلية. ونتيجة لذلك، يتحول الحق في التعليم الجامعي إلى شبه ترف مستحيل، لتتبدد أحلام الكثير من الفتيات عند بوابات الجامعات.

يبرز الزواج المبكر في مقدمة الأسباب التي تدفع الفتيات إلى ترك التعليم، إذ يُنظر إليه في بعض المجتمعات على أنه قيمة اجتماعية إيجابية أو وسيلة لضمان الاستقرار. وتؤكد التقارير الأممية هذا الواقع؛ فوفقًا لبيان عن  اليونيسف، تقارب نسبة الفتيات المتزوجات قبل بلوغ سن 18 عامًا في اليمن 30%، مما يقلل بشكل كبير احتمالية عودتهن إلى مقاعد الدراسة.

إلى جانب العادات والتقاليد، يُعد الفقر عاملًا أساسيًا في الحد من فرص التعليم العالي للفتيات، حيث أدت الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الحرب إلى عجز العديد من الأسر عن تغطية تكاليف التعليم الجامعي. كما أن الخشية من الاختلاط في البيئة الجامعية تمثل حاجزًا ثقافيًا إضافيًا يدفع بعض الأسر إلى منع بناتهن من مواصلة التعليم.

وتُفاقم هذه التحديات ضعف الكفاءة المؤسسية في قطاع التعليم العالي، حيث تعاني الجامعات الحكومية من محدودية المقاعد وضعف الطاقة الاستيعابية، ما يجعل فرص الالتحاق بالتعليم الجامعي للفتيات أكثر صعوبة وتعقيدًا.

سمعة العائلة و”وصمة” الاختلاط

بقرار عائلي حاسم وغير قابل للنقاش، حُرمت سمية (25 عامًا) من محافظة الحديدة اليمنية من مواصلة تعليمها الجامعي. تقول سمية في حديثها لـ”عابر”:

” بعد أن أكملتُ الثانوية العامة وحصلتُ على نتائج ممتازة في معظم المواد، كنت أتخيل نفسي كل صباح أرتدي ملابسي، أضع نظارتي الشمسية، وأحمل كتبي ومحاضراتي في طريقي إلى الجامعة” .

لكنّ أحلام سمية اصطدمت برفض أسرتها، إذ اعتبر أفراد العائلة أن الجامعات بيئة غير مناسبة للفتيات بسبب الاختلاط، وأن الحفاظ على سمعة العائلة أولى من أي شهادة يمكن أن تحصل عليها.

وتشير سمية بأسى إلى أن تجربتها ليست استثناءً، فالكثير من الشابات في محيطها تعرضن للمنع نفسه، بينما يظل الخيار الأكثر شيوعًا في مدينتها هو بقاء الفتاة في المنزل بعد الثانوية.

لم تتوقف محاولات سمية لإقناع أسرتها، لكنها واجهت شرطًا أخيرًا بدا لها كـ«رصاصة على ما تبقى من أحلامها»: أن تختار العائلة التخصص نيابةً عنها. اضطرت حينها إلى دراسة تخصص القبالة والتوليد، ليس عن رغبة، بل لأنه يُعد ـ وفقًا لأسرتها ـ تخصصًا يخلو من الاختلاط مستقبلًا. وتضيف أن عددًا من قريباتها واجهن المصير ذاته، فمنعن أيضًا من التعليم العالي.

وتختم سمية حديثها قائلة:

“حتى لو وافقت عائلتي لاحقًا، فالمجتمع سيقف عائقًا أمامي. فبمجرد سماعهم أن فتاة تدرس في جامعة مختلطة، سيقال إن ذلك خروج عن العادات والتقاليد والمذهب، وسيضغطون على أسرتي لرفض الأمر”.

مكان البنت دارها… من المهد للحد

استطلعت “عابر” رأي رجلين يمنيّين، أحدهما داخل اليمن والآخر مقيم في الخارج، لتسليط الضوء على وجهات النظر التقليدية تجاه تعليم المرأة.

فارس، 53 عامًا من محافظة إب، منع بناته الأربع من الجامعة باعتبار ذلك «حماية لا نقاش فيها»، وقال:

“مكان البنت دارها وبس… الأفضل لها تستبدل ذاك الوقت بـ’سيرة’ مشرفة في خدمة زوجها وأولادها.”
وأكد أن قناعته ليست فردية، بل يعززها محيطه الاجتماعي:
“كل من حولي يشتي للبنت الستر والزواج قبل أي شهادة.”

بينما يرى عبد الرحمن، 26 عامًا، المقيم في أنقرة، أن التعليم العالي ضروري للرجل فقط، والاكتفاء للمرأة بالقراءة والكتابة يكفي لدورها في المنزل وتعليم الأطفال. وعندما رغبت زوجته في متابعة دراستها، رفض وأجبرها على التوقف، وقال:

“هل زوجتي مقتنعة؟ نعم، لأنها مقتنعة أن الرجال قوامون على النساء.”

جهل القوانين يفاقم المشاكل

وفقًا لآراء عدد من الناشطات، يشكل غياب المعرفة القانونية لدى النساء غير المتعلمات حاجزًا حقيقيًا يمنعهن من حماية حقوقهن، ويجعلهن أكثر عرضة للاستغلال المالي والاجتماعي. فبسبب هذا الجهل، تتنازل الكثير من النساء عن حقوقهن في النفقة أو الميراث أو الحضانة، ولا يمتلكن المعرفة القانونية التي تمكنهن من طلب الحماية من العنف الأسري. كما يسهل استغلالهن لتوقيع عقود أو كفالات لا يدركن تبعاتها القانونية، فضلًا عن مواجهتهن صعوبات كبيرة في التعامل مع الإجراءات القضائية، ما يدفع كثيرات منهن للتنازل عن حقوقهن خوفًا من تعقيدات المحاكم.

وفي هذا السياق، تقول أمة الله عبد الله، ناشطة مجتمعية تعمل في قضايا المرأة والسلام لـ”عابر”:

“حرمان الفتيات من التعليم في اليمن واسع ومتزايد، وتفاقم بفعل الحرب التي دمّرت المدارس والجامعات، وتسببت في نزوح الأسر وانخفاض دخل العائلات. المشكلة لا تتعلق فقط بالوصول إلى التعليم، بل أيضًا بجودته، خاصة في المحافظات المتأثرة بالنزاع مثل الحديدة وتعز وصعدة والجوف والبيضاء، حيث تُعد الطالبات في المناطق الريفية والنازحات الأكثر عرضة للانقطاع عن الدراسة”.

وتوضح أن مزيجًا من الفقر والمعتقدات الاجتماعية الرافضة لتعليم البنات والخوف من الاختلاط والزواج المبكر يشكل شبكة معقدة من العوائق التي تمنع الفتيات من تقرير مستقبلهن. وتضيف:

“لا تزال الكثير من الأسر تعتقد أن الجامعة ليست مكانًا للبنات، وأن الزواج أفضل لهن من الدراسة، ما يؤدي إلى تزويج الفتيات قبل بلوغ 18 عامًا وإجبارهن على ترك المدرسة نهائيًا”.

وتختم أمة الله حديثها بالإشارة إلى أن العنف ضد الفتيات اللواتي يحاولن مواصلة تعليمهن ما زال قائمًا في بعض المناطق التقليدية، رغم تراجعه مقارنة بالسنوات الماضية، معتبرة أن حرمان الفتيات من التعليم لا يخلق فجوة معرفية فقط، بل يرسخ جهلًا بالحقوق القانونية والصحية والاجتماعية، مما يُبقي دائرة الحرمان مستمرة عبر الأجيال.

القيود تخنق احلام  اليمنيات

 تصف المحامية والحقوقية شيماء القرشي لـ”عابر” ما يحدث بأنه نتيجة عقلية تقليدية ما تزال مسيطرة على أجزاء واسعة من المجتمع اليمني، موضحة أن الفتيات في المناطق الريفية والفقيرة والساحلية يخضعن غالبًا لتعليم محدود، تشرف عليه سلطات محلية أو جهات غير حكومية. وفي المقابل، تتركز الجامعات في المدن الكبرى، ما يجعل انتقال الفتاة للدراسة خيارًا مرفوضًا لدى الكثير من الأسر.

وتضيف القرشي:

“أصبح مستقبل المرأة اليمنية مرتبطًا بنجاحات أخريات تمكنّ من كسر القيود، فنجاح امرأة واحدة في محيط محافظ يمكن أن يفتح الباب لغيرها، من باب المنافسة على الأفضل”.

وتشير إلى أن القيود الاجتماعية لا تقتصر على التعليم فقط، بل تمتد إلى مجالات الحياة كافة، بما في ذلك سوق العمل الذي ما يزال مغلقًا أمام النساء في عدد من المناطق، خصوصًا تلك التي ترى في بيئات العمل المختلطة أمرًا غير مقبول.

وتوضح أن بعض الأسر تسمح لبناتها بمواصلة التعليم فقط في مجالات محددة مثل التعليم أو الطب النسائي، قبل أن تسهم نماذج نسائية ناجحة في تغيير هذه النظرة تدريجيًا. وتلخص الوضع بقولها:

“قد تنجح المرأة في الوصول إلى مقعد دراسي، لكنها تُمنع لاحقًا من العمل، وكأن الحرمان يلاحقها في كل مراحل حياتها”.

وتواصل القرشي حديثها مشيرةً إلى أن أحد أخطر ما نتج عن هذه التحديات هو تطبيع الفتيات مع القيود المفروضة عليهن، إذ بدأت الكثيرات يعتبرن طاعة الأب أو الأخ أمرًا مقدسًا لا يمكن مناقشته، حتى لو كان القرار يمس مستقبل حياتهن. وتختم بالقول:

“التمرد ليس خطأً إذا تعلق الأمر بحق أساسي مثل التعليم. ما زالت الفتيات لا يسعين بما يكفي للحصول على حقوقهن، وهذه معركة تحتاج وعيًا ومساندة مجتمعية حقيقية”.

الاختلاط  و الاحصائيات

  تواجه المرأة اليمنية عقبات عديدة في الوصول إلى التعليم العالي، تعود في معظمها إلى العادات الاجتماعية والتقاليد المحافظة التي ما تزال تُقدّم الزواج بوصفه أولوية على التعليم. وبحسب تقرير المرأة في التنمية والسلام، فإن هناك رفضًا من بعض الأسر لإلحاق بناتها بالجامعات، بدافع الخوف من الاختلاط أو خشية تجاوز الأعراف الاجتماعية المتوارثة. وإلى جانب ذلك، تمثّل التحديات الاقتصادية عاملاً إضافيًا يُفاقم المشكلة، إذ لا تستطيع شريحة كبيرة من العائلات تحمّل تكاليف التعليم الجامعي في ظل الأزمات الاقتصادية المتكررة التي تمر بها البلاد.

وفي  تقرير صادر عن مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية عام 2024، برز بشكل واضح وجود فجوة كبيرة في التمثيل الأكاديمي بين الجنسين داخل الجامعات اليمنية. ففي جامعة صنعاء على سبيل المثال، يوجد 12 أستاذة بدرجة “أستاذ كامل” مقارنة بـ211 أستاذًا من الرجال، كما أن تمثيل النساء داخل المجالس الإدارية واتخاذ القرار في الجامعات لا يزال محدودًا للغاية، وهو ما يعكس ضعف مشاركة المرأة على المستويين الأكاديمي والإداري داخل المؤسسات التعليمية العليا.

أصوات تكسر الصمت

لم تختلف تجربة عليّاء كثيرًا عن قصص فتيات جيلها اللواتي يُحاصَرْن بالتوقعات المجتمعية، إلا أن صدمتها كانت أشد قسوة: لم يكن الخيار محصورًا بين تخصص وآخر، بل حُرمت من الدراسة نهائيًا.

مع ذلك، ولدت من رماد الحرمان إرادة صلبة. فقد عاهدت عليّاء نفسها في مقتبل العمر أن المستقبل سيكون بيدها، ولن تسمح لأي أحد بالتحكم في مصيرها أو مصير ابنتها لاحقًا. كانت تجربة والدتها، التي اعتادت الاستسلام لحديث الرجال وسلطتهم، بمثابة الدرس الأقسى.

وعندما حان الوقت، نطقت عليّاء بصوت يملؤه العزم والإصرار:

“سوف أساند ابنتي وأجعلها سيدة نفسها لا سادة عليها”.

وفي هذا السياق، تقول المدافعة عن حقوق الإنسان سارة العاذلي إن أصوات نسائية يمنية بدأت تظهر وتتزايد بشكل ملحوظ للمطالبة بحقوقهن في التعليم والعمل والمشاركة واتخاذ القرار، رافضات الوصاية والقيود المفروضة عليهن. رغم سلمية هذا الحراك، فإنه يواجه موجة من الاتهامات من جهات محافظة، تصف هذه المطالبات بأنها “أجندات غربية” تهدد القيم الدينية والأسرية، واتهام الناشطات بالسعي لتفكيك النسيج الاجتماعي. هكذا تجد المرأة اليمنية نفسها في مواجهة مزدوجة: المطالبة بحقها من جهة، ومكافحة اتهامات تهدف إلى إسكاتها وتجريدها من المصداقية من جهة أخرى.

وتختتم العاذلي حديثها باللهجة اليمنية قائلة:

“أنا متفائلة بالتغيير، دام فكرة وجود المرأة ومشاركتها للرجل زرعناها اليوم، أكيد بنحصدها بعدين إن شاء الله”.

وفي السياق نفسه، يؤكد الدكتور محمد رسول، المتخصص في علم الاجتماع، أن التعليم ضروري للنساء لتحقيق توازن في الوظائف على مستوى المجتمع. ويشير إلى أن التحدي الأكبر يكمن في العزل التقليدي بين المرأة والرجل، وهو سمة راسخة في المجتمع اليمني يصعب تغييرها بسهولة. ورغم ذلك، هناك جهود تبذل لتغيير هذا الوضع، أهمها إقناع المرأة بأنها ليست “عورة”. ويخلص الدكتور إلى أن التغيير يبدأ من المرأة نفسها، فهي تحمل مفتاح إحداث التحول المنشود.