عمال العراق والضمان الاجتماعي .. المعاناة والمصير المجهول
عابر – العراق

يعاني كثير من عمال القطاع الخاص في العراق من عدم حصولهم على الضمان الاجتماعي وحرمانهم من التسجيل عليه نتيجة لجشع أصحاب العمل.
فرغم سنوات العمل الطويلة تمتنع شركات كثيرة من تسجيل العاملين لديها في صندوق الضمان، ويعزف العمال بدورهم عن التسجيل أحياناً بسبب عدم قدرتهم على تحمل الاستقطاع المطلوب للضمان في ظل انخفاض الأجور والظروف الاقتصادية الصعبة في البلد.
كما لا يجد كبار السن من العمال ومن يتعرضون للحوادث أثناء العمل، أي ضمانات أو حقوق تعينهم على تحمل مشقات الحياة بعد فقدانهم القدرة على العمل.
هذا الواقع السوداوي وشجونه يواصل هيمنته على سوق العمل، في ظل تقاعس رسمي عن اتخاذ إجراءات ملزمة على أصحاب العمل بالرغم من وجود تشريعات حديثة.
مصير آخر العمر
داخل محله الصغير في سوق الشورجة وسط العاصمة بغداد، يجلس أبو مريم (70 سنة) متأملاً أدوات الحلاقة التي قضى معها أكثر من أربعة عقود، انتهت بمرض الصدفية الذي أصاب كلتا يديه، وأجبره على تحويل محله إلى مرافق صحية (دورة مياه)، بعد أن يئس من الحصول على الضمان أو البديل الذي يوفر لعائلته قوت العيش.

ينظر أبو مريم إلى أدوات الحلاقة بحسرة على ذكريات الأمس، وقلق من مستقبل مجهول ينتظر بناته الـ٤، بعد أن بلغ سناً متقدمة ونخر المرض جسده.

تكاد الدموع أن تملأ عينيه وهو يتحدث قائلا “أنا لا أخشى على نفسي، فأنا أعيش آخر أيام حياتي بين المرض والحسرة على محلي وأدوات الحلاقة التي صدئت. للأسف بعد أربعين عاماً من العمل في أغنى بلدان العالم النفطية، لم أجد أي ضمان استند عليه اليوم، أو أموت فيه وأنا مرتاح لما سيحل ببناتي الأربعة وزوجتي من بعد. أتساءل من لهن بعدي في حال مت”.
المصير المجهول
أبو مريم وملايين العمال في أرجاء العراق تجمعهم هواجس الخوف من المستقبل المجهول ذاتها بسبب العمل لسنوات طويلة أحياناً، من دون حقوق أو ضمان اجتماعي يوفر لهم لقمة عيش كريمة في الشيخوخة أو عند تعرضهم للحوادث.

الشاب ريبر أحمد محمود، وجد نفسه حبيس جدران غرفة بسيطة بعد تعرضه لصعقة كهربائية أثناء العمل، فقد إثرها يده اليسرى وأصابع يده اليمنى، فضلاً عن الحروق التي توزعت في جسده.
لا يستطيع ريبر توفير أساسيات العيش لأسرته أو دفع إيجار منزله.

“لا أعلم كيف أعيش الآن أو أوفر لعائلتي قوت العيش” يقول ريبر متأسفاً إنه بعد 15 سنة من العمل انتهى به الأمر جليس المنزل دول معيل.
ويضيف “حياتي انتهت، أنا بين هذه الجدران الأربعة طول اليوم، ولن أقوى على العمل بعد اليوم، ولا أعلم من أناشد. فأنا بعد كل تلك السنوات خرجت دون ضمان أو معيل ومصيري ومصير عائلتي مجهول”.
أحصائيات محبطة
لا توجد إحصائيات رسمية قاطعة لعدد العمال في العراق نتيجة عدم تسجيلهم جميعاً ضمن قواعد بيانات الوزارات الحكومية أو صندوق الضمان، لكن الأرقام تتراوح وفقاً لتقديرات عدد من النقابات العمالية، بين 5 إلى 6 ملايين عامل موزعين على القطاع الخاص والحكومي.

إلا أنه لم يسجل منهم في صندوق الضمان الاجتماعي التابع لوزارة العمل سوى 570 ألف عامل فقط او أكثر بقليل ، وفقاً لبيانات سابقة صدرت عن وزارة العمل، وأظهرت معها تحرك الوزارة لزيادة عدد المشمولين بالضمان لترتفع من 250 بعد تنشيط دور الفرق واللجان التفتيشية التابعة للوزارة.

ولكن رغم تحركات الوزارة، لا تتجاوز نسبة العمال المسجلين حتى اليوم 10% من مجموع العمال، نتيجة لعوامل عدة أبرزها سطوة أصحاب العمل الذين لا يريدون دفع 12% من أجور العامل لصندوق الضمان.
ويشير رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال العراق، علي رحيم الساعدي، إلى أن العمال أنفسهم يتحملون جزءاً من المسؤولية بسبب غياب الوعي لديهم حول إيجابيات الضمان، وانعكاساته الإيجابية على مستقبل العامل وعائلته في حال تعرضه للإصابة.
وأضاف الساعدي أن الجزء الآخر من المسؤولية يقع على عاتق أرباب العمل الذين لا يتعاونون فيما يتعلق بدفع مبالغ الضمان للعامل.
قانون على ورق
في أيار/مايو 2023 صوّت مجلس النواب العراقي على قانون الضمان الاجتماعي والتقاعد الذي استهدف إنهاء الفوارق بين العاملين في القطاعين العام والخاص، وتوفير بيئة مناسبة للنهوض بالقطاع الخاص والعاملين فيه. وقد اعتبره عدد من النواب آنذاك خطوة مهمة لتطوير الاقتصاد الوطني.

وبعد مرور عامين على إقرار القانون، يرى الخبير الاقتصادي صالح الهماشي أنّه ما زال «حبراً على ورق»، موضحاً في تصريح صحفي أنّه قانون مهم ومفيد من الناحية النظرية، إلا أنّ تطبيقه جاء ضعيفاً وغير فاعل بسبب غياب الترويج له والمتابعة من وزارة العمل، الأمر الذي أدى إلى استفادة فئة محدودة فقط منه.

وأشار الهماشي إلى تراجع إنتاجية العامل في القطاع الخاص نتيجة هجرة الأيدي العاملة الماهرة وغياب مراكز التدريب والتطوير المهني، كما انتقد تركيز منظمات المجتمع المدني على الجوانب النظرية والإدارية دون تقديم تدريب فني وتأهيل حقيقي. وحمّل الوزارة مسؤولية عدم افتتاح مراكز مهنية تمنح امتيازات مشجعة للعاملين، لافتاً إلى أنّ تطبيق القوانين في القطاع الخاص يعاني ضعف المتابعة واستمرار الفساد، وأن العاملين فيه يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية ولا يحصلون على الضمانات أو القروض التي يتمتع بها موظفو الدولة، فضلاً عن تعقيد بيئة الأعمال نتيجة تعدد الجهات المانحة لتصاريح مزاولة المهنة وتداخل صلاحياتها.
فوضى سوق العمل
ورغم الآمال الكبيرة التي عُقدت على هذا القانون، إلا أنه لم يُطبَّق بالشكل الفعلي حتى الآن؛ إذ ما يزال معظم العاملين في القطاع الخاص خارج مظلة صندوق الضمان الاجتماعي التابع لوزارة العمل، بسبب امتناع العديد من أصحاب العمل عن تسجيلهم وتحمّل التكاليف الشهرية المترتبة عليهم لصالح الوزارة.

ويقر رئيس الاتحاد العراقي لنقابات العمال وليد نعمة، أن هناك عدم اهتمام من قبل الطبقة السياسية المتحكمة بالقرار بسوق العمل العراقية، وأن الفوضى السياسية وتدخّل أصحاب القرار بالأمور النقابية، أدى إلى فوضى عارمة في سوق العمل العراقي.