تقول مريم (14 عاماً): “أخاف حين يغيب والدي عن المنزل، لا يعلم هو بذلك، لكن الخوف يتملكني”. لم يتمكن والدا مريم من تسجيلها لعدم وجود عقد زواج موثق، ويرجع ذلك لعدة أسباب، أهمها أن جواز سفر والدتها أو ما يثبت هويتها لم يكن بحوزتها. وبعد وفاة والدتها، أصبحت تعيش في دوامة من الخوف والقلق المستمر بسبب وضعها ووضع والدها القانوني الهش في الأردن، وما يترتب عليه من مخاطر.
تُعدّ هذه المخاوف مبررة، نظراً لاحتمالية مواجهة والدها خطر الاحتجاز والترحيل القسري، لعدم وجود تصريح عمل ساري المفعول وانتهاء إقامته. المخاوف ذاتها تمنع مادو وغيرها من محاولة تصويب أوضاعهن.
بحسب تقرير نشرته منظمة العفو الدولية بعنوان “سجن النساء وانتزاع الأطفال”، تواجه النساء غير المتزوجات في الأردن مشكلة انتزاع المواليد منهن قسراً، كونهم “مواليد غير شرعيين”، وفقاً للقانون. وقد وثقت المنظمة حالة لعاملة منزلية من بنغلادش، كانت محتجزة إدارياً لمدة تزيد على أربعة أشهر، لارتكابها “جريمة الزنا”، وأنجبت طفلاً خلال احتجازها، فانتُزع الطفل منها من دون إبلاغها عن مكان الطفل، رغم سؤالها المتكرر وإلحاحها الشديد لرؤيته.
عاملة أخرى إندونيسية سُجنت لمدة ثلاث سنوات ونصف، من دون مسوغ قانوني واضح، بعد تعرضها لجنايتي اغتصاب، وأُرسِل أبناؤها لأسر بديلة راعية خلال تلك الفترة.
وبحسب المحامية أسماء عميرة، لم تتمكن العاملة من رؤية أبنائها سوى مرة واحدة خلال فترة احتجازها. وبعد خروجها أُخبرت بأنهم اُحْتُضِنوا في أسر رعاية بديلة؛ الأمر الذي أجبرها على الرضوخ للأمر الواقع وعدم المطالبة باسترجاعهم، لا سيّما بعد استقرار حياتهم، فضلاً عن صعوبة الإجراءات وطول أمدها وارتفاع تكاليفها.
قصة عمر (16 عاماً) مثال آخر على تسفير العاملات من دون أطفالهن. هو ابن عاملة منزل سريلانكية وعامل هندي، عاش مع والديه حتى أُلقي القبض على والدته بقرار إداري؛ بسبب مخالفتها لقانون الإقامة وشؤون الأجانب، ورُحِّلَت من دون ابنها، بسبب تراكم غرامات تجاوز الإقامة عليه منذ ولادته، وعدم امتلاكه وقتها أوراقاً ثبوتية. بعد ذلك، توفي الأب وبقي عمر بلا مأوى لمدة سنتين. تعرض خلال تلك الفترة لعدة أشكال من الاستغلال “الجنسي والجسدي”.
وبفضل تعاون العديد من الجهات، مثل تمكين والسفارة السريلانكية والاتحاد العربي للنقابات، بالإضافة إلى صدور عفو عام في عام 2018 عن غرامات الإقامة، رُحِّل الطفل واجتمع شمله بوالدته.
يوضح علي الخصبة، مسؤول قسم الرعاية والأسر البديلة في وزارة التنمية الاجتماعية الأردنية، أنه في حال توقيف الأم إدارياً بسبب مخالفة قانون العمل أو الإقامة، يُرسل الطفل غير المسجل (إذا كان حديث الولادة أو لا يتجاوز عمره السنتين) إلى مؤسسات الحسين الاجتماعية. أما إذا كان عمر الطفل يتجاوز السنتين، فيُرسل إلى إحدى دور الرعاية الأخرى؛ سواء كانت تطوعية (خاصة) أو حكومية، ويُمنح رقماً وطنياً وجنسية أردنية.
ويضيف الخصبة أنه خلال هذه الفترة، تتم دراسة حالة الطفل تحت إشراف مديرية حماية الأسرة؛ لتقييم الوضع وبحث إمكانية أن يُرسل الطفل إلى “الرعاية البديلة”، مع الأخذ في الاعتبار مجموعة من العوامل والمعايير؛ بما في ذلك سؤال الأم عن الطفل ومدى جديتها ورغبتها في إثبات النسب و”إمكانيته”. بالإضافة إلى الحصول على موافقات من الأمهات (العاملات المهاجرات) قبل تسليم أطفالهن إلى تلك الأسر البديلة، ويُحْصَل على هذه الموافقات بشكل شفهي أو خطي، وفق الخصبة.
في هذا السياق، يؤكد الخصبة أن هناك نسبة من النساء العاملات يفضلن ترك أطفالهن في الأردن بمحض إرادتهن، وعادة ما يرتبط هذا القرار بأسباب اجتماعية؛ كالولادة خارج إطار الزواج.
وفي حال رفضت الأم إعطاء طفلها إلى أسرة بديلة -سواء كان “مثبت النسب أو مجهول النسب”- فإن الطفل يبقى في المؤسسة الاجتماعية، أو في إحدى دور الرعاية لحين استكمال محكومية الأم في السجن، أو الانتهاء من إجراءات إثبات النسب.
وفي السياق ذاته، يشير مسؤول قسم الرعاية والأسر البديلة في وزارة التنمية الاجتماعية الأردنية إلى إمكانية إعادة الطفل لأسرته الفعلية إذا أُثْبِت نسبه؛ وذلك بموجب قرار قضائي من المحكمة، ومن بعدها يُسحب الرقم الوطني والجنسية الأردنية منه، من خلال دائرة الأحوال المدنية بإشعار من وزارة التنمية الاجتماعية.
تواصلنا مع إدارة حماية الأسرة والأحداث، التابعة لمديرية الأمن العام، للرد على أسئلتنا المتعلقة بسحب أبناء العاملات؛ لكنّ الإدارة لم تزودنا بأيّ معلومات أو إجابات.
السفارات بين الجهود الدبلوماسية والتقصير
يرى السكرتير التنفيذي المساعد للاتحاد العربي للنقابات، المشرف على مركز دعم وتمكين العمال المهاجرين، محمد المعايطة، أن السفارات لديها تقصير واضح في التعامل مع القضايا المتعلقة بشؤون رعاياها من العمالة المهاجرة، تحديداً فيما يخص إجراءات التوثيق وإثبات النسب.
فالأصل أن يتمّ إثبات النسب وإصدار شهادات الميلاد ابتداءً من خلال السفارات؛ ومن ثم المصادقة عليها من قبل وزارة الخارجية الأردنية، من دون الحاجة إلى دخول هذا النفق الطويل والمكلف للوصول إلى المظلة القانونية، وفقاً للمعايطة.
ويضيف: “بحصول الطفل على وثائق ثبوتية من سفارته يصبح شخصاً اعتبارياً له وجود على الأرض، بصرف النظر عن وضع الأب والأم القانوني في المملكة”.
ولإصدار شهادة ميلاد من سفارات البلدان التي ينتمي لها العاملون والعاملات، لا بد بداية من تسجيل الولادة والحصول على شهادة ميلاد موثقة من السلطات الأردنية؛ ما يعيدنا للدائرة نفسها: شهادة الميلاد!
كما أكد مركزا “تمكين والعدل” بأن تعاون السفارات مع المهاجرين في إصدار الأوراق وتسهيل المعاملات كان له دور في حل مشكلات توثيق أطفالهم وتسفيرهم إلى بلادهم، بخلاف بعض الحالات التي أغلقت سفاراتهم أبوابها أمامهم أو بعض الحالات القادمة من دول ليس لديها أيّ تمثيل دبلوماسي في الأردن.
وفي السياق ذاته، يشدد المعايطة على أهمية وضع بنود واضحة ونصوص قانونية لمشكلة الزيجات غير الموثقة والأبناء، ضمن الاتفاقيات الثنائية الموقعة بين الحكومة الأردنية وغيرها من الحكومات، لإرسال العمالة الوافدة.
ومن جهة أخرى، تطرق في حديثه إلى الإشكالية التي تواجهها العمالة المهاجرة التي تتبع بلدانهم الشريعة الإسلامية؛ لأن الطفل يُعدّ “غير شرعي” إذا لم يعترف به الأب، أو في حال غيابه؛ حتى وإن كان الطفل نتاج علاقة قائمة على الإيجاب والقبول وشهادة شهود. على عكس بعض الدول التي تمنح الأم حق نسب الطفل لنفسها، في حال غياب الأب أو عدم اعترافه بالطفل.
حلقة مفرغة
خاطب مركز تمكين وزارة الداخلية عدة مرات؛ لإيجاد حل لمشكلة تسجيل أطفال العمالة المهاجرة في الأردن. وعرض مجموعة من الحلول، ومع ذلك، لم يتلقَ المركز أيّ رد على الكتب الرسمية المُرسلة، وفقاً لمركز تمكين.
وفي تعليقها على ذلك، تقول المحامية أسماء عميرة إنها تعتقد أن الحكومة غير مدركة -بالقدر الكافي- لحجم المشكلة وخطورة النتائج المترتبة عليها، لا سيّما مع وجود نسبة كبيرة من العمالة غير النظامية. وتضيف: “إذا نظرنا إلى هؤلاء الأطفال بعد عشر سنوات، فسنرى جيلاً كاملاً غير متعلم ولم يحصل على الرعاية الصحية اللازمة، وقد ينتهي المطاف ببعضهم في الشوارع بلا مأوى، وقد يتعرضون للبيع والشراء من شخص لآخر، أو يتم استغلالهم هم أو عائلاتهم”.
القضية قيد النظر “لأجل غير مسمى”
حصلت سفارة الفلبين في الأردن على امتياز استثنائي في آب/أغسطس 2023، بعد نحو عقد من المفاوضات مع الخارجية الأردنية لإعادة الأطفال الذين ولدوا خارج إطار الزواج في الأردن إلى وطنهم مع أمهاتهم، والتنازل عن غرامات تجاوز مدة الإقامة، فسهّلت السفارة إصدار وثائق التسجيل المدني الفلبينية ووثائق السفر، وتحمل مكتب العمال المهاجرين في الأردن تكاليف تذاكر الطيران والنقل بالحافلات قبل مغادرتهم.
وبعد ذلك، أعلنت السفارة الفلبينية عودة 40 طفلاً إلى الفلبين مع أمهاتهم على دفعات، بعد منعهم سابقاً من العودة إلى الفلبين بسبب عدم وجود شهادة ميلاد أردنية، وهي شرط للسفر خارج الأردن.
لم يكن روبيرتو ووالدته ميليندا* (49 عاماً) من بين العائدين إلى الفلبين. تقول ميليندا: “لا خيار لي سوى العمل، أعمل من أجل توفير لقمة العيش لعائلتي في الفلبين وابني هنا، تحديداً في ظل غياب الأب وتخليه عن مسؤولياته تجاه الطفل وصعوبة الحصول على عمل آخر إذا عدت إلى بلدي، كوني كبيرة السن، فضلاً عن صعوبة دفع الغرامات المالية الكبيرة المتراكمة علينا منذ سنوات”.
ورغم إدراكها بأنها خالفت قانون العمل والإقامة، تعتقد ميليندا أن طفلها يجب ألا يُعاقب على هذه المخالفة بحرمانه من حقوقه الأساسية، وفرض الغرامات المالية عليه.
تواصلنا مع سفارة جمهورية بنغلادش في الأردن لنسألهم عن توثيق أبناء العمال والعاملات المهاجرات، فردت أنها لا تستطيع منح أبناء هذه الفئة الجنسية في ظل غياب وثيقة زواج/شهادة ميلاد رسمية، وأضافت: “الزواج عقد قانوني، وما لم يكن موثقا أو إن وجدت فيه ثغرات قانونية لأيّ سبب كان، يستحيل اعتباره زواجا،ً يجب أن يكون هناك نوع من التوثيق”.
تستقبل السفارة سنويا حالة أو حالتين لآباء وأمهات يرغبون في توثيق أبنائهم، وتتم مخاطبتها من مراكز التوقيف، وترسل هذه القضايا العالقة لوزارة الداخلية في بنغلادش. ل كنّ السفارة لا تملك حلا؛ً فحكومة بلادها لا تستطيع أن تتجاوز “القانون”. لافتين إلى أن الحال ينطبق على من ينحدرون من أصول بنغالية ويقيمون على الأراضي الأردنية منذ فترة طويلة ، فهم يعجزون عن إثبات سلسلة نسبهم لدولة بنغلادش.
أما عن أبناء العاملين/ات من بنغلادش، بيّنت السفارة أن هذه القضايا تبقى قيد النظر أو بمعنى آخر معلقة حتى إشعار آخر -لا تراه قريبا- أو بالأحرى ترى السفارة أن الدولة المضيفة مسؤولة عن هذا الملف: “عند نقطة ما، يجب أن نجد حلا”.
تواصلنا مع سفارتي الفلبين وسريلانكا، لكن لم نتلقَ رداً حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.
* أسماء مستعارة
أنجز هذا التحقيق بدعم من أريج.