محرقة الشرق الأوسط خلال عام ونصف من الحروب: المدنيون بين الملاجئ والمقابر
في رحلة النزوح من شمال غزة إلى الجنوب، وتحديدًا في شارع الرشيد بمخيم النصيرات، يجلس محمود مع أطفاله حفاةً، بملابس مهترئة، على قارعة الطريق، في شبه خيمة تختزل صورة الملجأ أمام وتيرة القصف الإسرائيلي المتصاعدة. فقد محمود اثنين من إخوته في قصفٍ إسرائيلي، ويعيش اليوم مع ما تبقّى من عائلته داخل هذه الخيمة الهزيلة، متشبثًا بأمل النجاة. بابها قماشيٌّ ممزق، ولا شيء فيها سوى التراب وبعض الأكياس الصغيرة. يقول: “لا ملجأ لنا، ولا راحة حتى في المناطق التي يدعوننا للاحتماء بها. يلاحقنا الموت والجوع في كل بقعة من القطاع. القصف مستمر، ولم نختبر سوى فقدان البيت والأمان. الشارع هو الملجأ الوحيد.”
غزة.. لا ملجأ من الموت

في غزة، لا مكان آمن ولا ملجأ، مع استمرار وتيرة القصف، حتى في ظل الحرب الدائرة حاليًا بين إسرائيل وإيران. ويُسجّل هذا القطاع، الذي يُعدّ من أعلى المناطق كثافةً سكانية على مساحة لا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا، عشرات القتلى يوميًا. وخلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، قُتل 65 فلسطينيًا، وأُصيب 315 آخرون، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، نتيجة تجدّد القصف الإسرائيلي على القطاع، دون أن تردعه نيران الحرب المشتعلة بين إسرائيل وإيران.
وأمام آلة الحرب، انتشرت صور لأطفال وصحافيين يُحرقون أحياء، بلا ملجأ يحتمون فيه من النيران، ولا حتى مياه لإطفاء ألسنة اللهب. إلى حدٍّ جعل البعض يشبّه قطاع غزة بسجنٍ كبير يلاحق فيه الموت الناس بأشكال متعددة؛ فإن نجا أحدهم من الرصاص، فلا ملجأ له من الجوع، والمعالم كلها تتشابه. والموت لا يوفّر طفلًا، ولا امرأة، ولا شيخًا.
إحصائيات مهولة
حتى الخامس من مايو/أيار الجاري، أحصت وزارة الصحة الفلسطينية مقتل 55,615 شخصًا نتيجة العمليات العسكرية الإسرائيلية. ومع ذلك، تشير دراسة حديثة نُشرت في مجلة لانسيت البريطانية إلى أن الأرقام الحقيقية قد تكون أعلى بكثير من الحصيلة الرسمية، إذ تُقدَّر أعداد الضحايا بما يتراوح بين 77 ألفا و109 آلاف من القتلى ، أي ما يعادل نحو 5% من سكان غزة قبل الحرب.

تجاوزت أرقام الضحايا كل الخطوط الحمراء منذ اندلاع حرب أكتوبر 2023، ولا يزال عدّاد الموت مستمرًا مع اتساع رقعة الجبهات التي تشعّبت من الشرارة الأولى، عقب هجوم حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر.
ورغم وجود شبكة أنفاق معقّدة تحت القطاع، فإنها لا تُستخدم كملاجئ، بل تُعدّ معابر لوجستية لنقل المستلزمات، وغالبًا ما تُستخدم لأغراض عسكرية. وتشير المهندسة المعمارية اللبنانية سنا عدنان إلى أن هذه الأنفاق تختلف من حيث التصميم والوظيفة عن الملاجئ، وغالبًا ما تشكّل خطرًا على حياة من يختبئون فيها، في ظل غياب التهوية المناسبة، وصعوبة الحركة، وندرة قنوات الصرف الصحي. وتقول: “قد تصبح الأنفاق سببًا في الموت ذاته، إذ يختنق من بداخلها بسبب الاكتظاظ وغياب التهوئة. غزة بحاجة إلى ملاجئ تكفي مليوني شخص على الأقل.”
وفي ظل هذا الواقع القاسي، يلجأ سكان غزة إلى المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين كملاذ مؤقت، خاصة أن المستشفيات نفسها لم تسلم من القصف والاستهداف. وتربط عدنان غياب الملاجئ بعدم وجود استراتيجية واضحة، وانعدام التمويل اللازم لإعادة الإعمار، إضافة إلى صعوبة إدخال مواد البناء إلى القطاع، وفي مقدمتها الإسمنت الذي تحظره السلطات الإسرائيلية.
لا ملاجئ في لبنان

كلّف دخول لبنان في الحرب أكثر من 4,000 قتيل، بحسب وزارة الصحة اللبنانية، إضافة إلى 15,000 جريح، من بينهم أكثر من ألف طفل، إلى جانب دمار طال نصف البلاد، ونزوح قسري شرّد عائلات بأكملها على مدى أكثر من عام ونصف.
وبحسب حصيلة محدثة لوزارة الصحة اللبنانية بعد السابع من أكتوبر، قُتل 4,047 شخصًا، وأصيب 16,638 آخرون جراء العدوان الإسرائيلي، من بينهم 316 طفلًا و790 امرأة. وسقط معظم هؤلاء في المناطق السكنية التي تفتقر إلى أي ملاجئ حقيقية.
سبق للبنان أن واجه معضلة غياب الملاجئ في محطات عدّة، أبرزها حرب تموز 2006، والحروب التي سبقتها. ووفق الحقوقية اللبنانية آمنة خليل، فإن التحايل على القوانين التي كانت تُلزم بتشييد ملاجئ في الأبنية السكنية، أدى إلى استبدالها بمواقف للسيارات أو مخازن، ما ترك المدنيين من دون أي حماية حقيقية. وتشرح: “في سبعينات القرن الماضي، كانت الأبنية مجهّزة بملاجئ أو أقبية تُستخدم لحفظ المؤونة، وغالبًا ما كانت مزوّدة بسواتر ترابية، خصوصًا خلال الحرب الأهلية. لكن هذه الوظيفة اندثرت لاحقًا لأسباب تجارية.”

حتى في حال توفرت، فإن الملاجئ في لبنان ليست بالضرورة صالحة لتأمين الأمان الكامل. ويشير خبير المباني اللبناني راشد سركيس إلى أن معظم هذه الملاجئ، بفعل قدم الأبنية وعمقها المتوسط، لا يمكنها الصمود أمام الصواريخ الحديثة الخارقة للتحصينات.
ولا تزال عملية اغتيال الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في 27 سبتمبر الماضي، حاضرة في الأذهان، بعد أن استُهدِف بصواريخ وصلت إلى عمق يتراوح بين 50 و70 مترًا.
وفي ظل هذا النقص في الملاجئ، لجأ اللبنانيون إلى النزوح نحو المناطق البعيدة عن خطوط المواجهة، خصوصًا بعد إعلان حزب الله إطلاق “جبهة إسناد غزة” في 8 أكتوبر 2023.
إيران: التفكير بالقوة وإغفال السلامة؟
بالتزامن مع تصاعد وتيرة القصف المتبادل وسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، حذّر سياسيون إيرانيون من غياب الملاجئ الآمنة في المدن الكبرى، فيما شدّدت منظمة الوقاية وإدارة الأزمات في طهران على أن القاعات الموجودة داخل المباني مُخصّصة لمقاومة الهزات الأرضية والزلازل، وليست مهيّأة لمواجهة الهجمات بالأسلحة المتطورة، كالصواريخ والقنابل.
وفي ظل هذا النقص، يلجأ المدنيون إلى مواقف السيارات داخل المباني الشاهقة، بالإضافة إلى المساجد ومحطات المترو، للاحتماء مؤقتًا، رغم أنها لا تُعد بدائل موثوقة في حالات الطوارئ.

وقد أعاد هذا الواقع تسليط الضوء على ما يعتبره البعض سوء إدارة وتخطيط، إذ يرى مراقبون أن النظام الإيراني ركّز على التسلح، دون إيلاء الاهتمام الكافي لأمن وسلامة المواطنين العزّل.
وأعلنت وزارة الصحة الإيرانية مقتل 224 شخصًا على الأقل في إيران منذ بدء الهجمات الإسرائيلية يوم الجمعة. ونقلت وكالة “مهر” شبه الرسمية عن المتحدث باسم وزارة الصحة، حسين كرمانبور، قوله إن 1,277 شخصًا أُدخلوا المستشفيات، مشيرًا إلى أن “أكثر من 90%” من الضحايا هم من المدنيين.
إسرائيل: هل تكفي الملاجئ؟
رغم تفوّقها العسكري الواضح على جبهتي غزة ولبنان، تكبّدت إسرائيل نحو 900 وفاة، إلى جانب عشرات الآلاف من الجرحى. وتُسلّط المقارنة بين أعداد المفقودين في مختلف الدول الضوء على غياب التكافؤ في توفّر الأماكن الآمنة، بين دولة وأخرى.
ومع احتدام التوترات الحالية بين إيران وإسرائيل، سارعت الأخيرة إلى إطلاق صفارات الإنذار بشكل متكرر، مطالبة سكانها بالبقاء قرب الملاجئ. وتقدَّر القدرة الاستيعابية لهذه الملاجئ بنحو 6 ملايين شخص، وفق تقارير رسمية، وهي مصمّمة للتعامل مع سيناريوهات الحرب الشاملة.
لهذه الغاية، دُعّمت الشقق السكنية بغرف آمنة، والمباني بملاجئ تحت الأرض، والشوارع بممرات تُستخدم كملاجئ عامة في حالات الطوارئ. وتتمتع هذه المنشآت بمستويات تجهيز متقدمة، تشمل المواد الغذائية، ووسائل الاتصال، وأبوابًا فولاذية، نظرًا لحساسية الموقع الجغرافي لإسرائيل وعداوتها التاريخية مع جيرانها. كما يُفرض وجود الملاجئ ضمن شروط تراخيص البناء في البلاد.

خلال التطورات الأخيرة، فُتحت الملاجئ إلى جانب محطات المترو وبعض المستشفيات. ومع ذلك، لعب عنصر المفاجأة دورًا حاسمًا، إذ استهدفت الصواريخ الإيرانية الأحياء السكنية، مما غيّر من قواعد الاشتباك. فليل السبت – الأحد، أصيب 380 شخصًا، وقُتل 13، بينهم أطفال، حسب وسائل الإعلام الإسرائيلية، عقب إطلاق إيران نحو 300 صاروخ باليستي باتجاه إسرائيل.
وربطت قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية حصيلة القتلى بعدم التزام عدد من السكان بالتعليمات، وأبرزها دخول الملاجئ فور دويّ صفارات الإنذار. ورغم ما يُعتبر تفوقًا في بنية الحماية المدنية، نقلت صحيفة يسرائيل هيوم شكاوى مواطنين من نقص الملاجئ في بعض المناطق، واتهامات لحكومة بنيامين نتنياهو بالتقصير، إذ “علق آلاف الإسرائيليين في الشوارع في تل أبيب خلال دويّ صفارات الإنذار”.
ملاجئ أم مقابر؟

مع اشتداد وتيرة العدوان واتساع رقعة المواجهات في الشرق الأوسط، تُطلق المهندسة المعمارية سنا عدنان تحذيرًا بالغ الأهمية: لا يمكن التفكير بأي خطط لإعادة الإعمار دون وضع مسألة تأمين الملاجئ في صلب الأولويات. فالملاجئ لم تعد مجرّد خيار هندسي، بل باتت ضرورة وجودية تقي البشر ليس فقط من الكوارث الطبيعية كالزلازل، بل من الحروب المتكررة التي لا تفرّق بين مقاتل ومدني، ولا تميز بين جبهة وحيّ سكني.
لكن السؤال الأخطر يظلّ مطروحًا: هل الملاجئ كما نعرفها قادرة فعلًا على حماية الناس في ظل تطور غير مسبوق في تكنولوجيا الأسلحة؟ فمع القنابل الذكية التي قد يصل وزن الواحدة منها إلى 900 كيلوغرام، والقادرة على اختراق أعماق الأرض وتفجير التحصينات، تصبح الملاجئ، في كثير من الحالات، فخًا قاتلًا قد يتحوّل إلى مقبرة جماعية.
اليوم، أمام العالم فرصة لإعادة تعريف مفهوم الأمان المدني، ولتحمّل مسؤولية جماعية تجاه المناطق المنكوبة. فالمعادلة لم تعد تحتمل التأجيل: إمّا ملاجئ فعالة تُبنى وفق معايير مقاومة للأسلحة الحديثة، وتُدار بآليات طوارئ فاعلة، أو واقع تستمر فيه المدن في التحول إلى مساحات مفتوحة للموت، ويدفن فيه الأمل تحت الركام.