صحفي يُقتل وفساد يستشري في نظام العدالة في باراغواي

فينياس روكيرت “قصص محظورة” – بالتعاون مع (مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد) OCCRP

صحفي يُقتل وفساد يستشري في

نظام العدالة في باراغواي

في 12 شباط/ فبراير 2020، قُتل الصحفي البرازيلي ليو فيراس برصاص مسلحين في مدينة بيدرو خوان كاباليرو، على الحدود الباراغوايانية. تكشف وثائق داخلية حصلت عليها منظمة “قصص محظورة” (Forbidden Stories) وشركاؤها في “تحالف باراغواي” (Alianza Paraguay) كيف أن مكتب الادعاء العام في باراغواي فشل في التحقيق بشكل جاد مع زعيم منظمة تهريب المخدرات المشتبه بوقوفه وراء عملية الاغتيال، على الرغم من الطلبات المتكررة للتعاون من الجانب البرازيلي.

في مساء يوم صيفي في باراغواي جلس مراسل الجريمة لورينسو “ليو” فيراس لتناول العشاء مع عائلته في مدينة بيدرو خوان كاباليرو الباراغوايانية في الإقليم المحاذي للحدود مع البرازيل. هناك حتى وجبات العشاء العائلية ليست آمنة.

اقتحم مسلحان المنزل. طاردا فيراس وأطلقا عليه 12 رصاصة أردته قتيلاً على الفور، ثم فرا من المكان في سيارة كان يقودها شريك لهما.

لن تنسى زوجة فيراس، سينتيا غونزاليس، هذا التاريخ أبداً، الثاني عشر من شباط/ فبراير 2020. بعد أكثر من خمس سنوات على وقوع الحادثة، تتحدث بتأثر كبير عن زوجها الراحل، وعن حقيقة أن من يُشتبه بارتكابهم جريمة اغتياله لم يُدانوا بعد.

كان فيراس، البرازيلي الأصل الذي انتقل للعيش في باراغواي، في الخمسينيات من عمره وقت اغتياله. وهو واحد من صحفيين قلائل في المنطقة يغطون قضايا الجريمة المنظمة وعصابات تهريب المخدرات، وينشر تقاريره القصيرة عبر منصة الأخبار الإلكترونية التي يديرها “Porã News”.

شكل مقتل فيراس جرس إنذار ليس فقط بشأن حالة حرية الصحافة في باراغواي، بل و حول أوجه القصور في نظام العدالة المكلّف بالتحقيق في مثل هذه الجرائم. قالت غونزاليس لمنظمة “قصص محظورة”: “الجميع كان يعرف من (يقف وراء الجريمة)، لكنهم أغلقوا أعينهم. لا أعلم إن كانت الأمور تُدار بهذه الطريقة في أماكن أخرى، لكنها هنا تعمل هكذا (داخل نظام العدالة في باراغواي)”.

بالرغم من مرور خمس سنوات على مقتل الصحفي، لم يُعتقل سوى شخص واحد على صلة بالقضية، والذي أُطلق سراحه لاحقاً بسبب نقص الأدلة. كما تأخر مكتب الادعاء العام في استدعاء الشهود للاستجواب؛ ووفقاً لغونزاليس، مضى نحو عام كامل قبل أن يستدعوها. وتقول إنها لم تحصل على محام. ومع أن الشرطة وفرت حماية مؤقتة أمام منزلها، إلا أنها غادرت البلاد لاحقاً خوفاً من الانتقام.

التعامل السيئ مع التحقيق في مقتل فيراس ليس استثناء. في الواقع، تعتبر باراغواي “ثقباً أسود” في نظام العدالة، بحسب ما يكشف تحقيق منسق أجرته “قصص محظورة” بالشراكة مع مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP).

لورينسو “ليو” فيراس في صورة نشرها على فيسبوك عام 2010 (المصدر: فيسبوك)

ووفقاً لوثائق داخلية اطلع عليها فريق التحقيق الاستقصائي، فإن السلطات الباراغوايانية فشلت مراراً في التحقيق في قضايا الجريمة المنظمة، وسط تجاهل طلبات التعاون من دول الجوار، لتعطل التحقيقات في قضايا فساد رئيسية. بل ويبدو أنها أعاقت تحقيقاً أجرته السلطات البرازيلية حول الشخص المشتبه بإصداره أمر اغتيال الصحفي فيراس: زعيم مخدرات يُعرف بلقب “مينوتور”.

تقول مارتا فيرارا، مديرة منظمة “سيميّاس” الرقابية لمكافحة الفساد في باراغواي: “لا أقول إن جميع المدعين العامين فاسدون، ولا جميع القضاة، لكن الغالبية العظمى منهم كذلك”.

أما خوان مارتينس، الخبير في شؤون الجريمة المنظمة في باراغواي والأستاذ في الجامعة الوطنية في بيلار، فقال لـ”قصص محظورة”: “لقد تسللت الجريمة المنظمة إلى صفوف الشرطة ومكتب الادعاء العام. هناك من يسعون لأداء عملهم بإخلاص، لكن من يخدمون مصالح الجريمة المنظمة يتمتعون بسلطة أكبر”. وأضاف : “إنه توظيف متعمد لسلطة الدولة لترسيخ الإفلات من العقاب”.

لم يردّ مكتب الادعاء العام في جمهورية باراغواي على أسئلتنا التفصيلية. وبدلاً من ذلك، أصدر المكتب بياناً عاماً باللغة الإسبانية، أشار فيه إلى عدم امتلاكه صلاحية طلب بيانات حساسة تتعلق بقضايا جنائية قيد التحقيق. كما لم تستجب الشرطة الوطنية ولا المدعون العامون الحاليون أو السابقون الذين ورد ذكرهم في هذا التقرير، لطلباتنا المتكررة للتعليق.

ونتيجة الإفلات من العقاب تحولت باراغواي إلى واحدة من أكثر الدول تفشياً للجريمة في أميركا اللاتينية، فيما يقف الصحفيون في الصفوف الأمامية للمواجهة. يُعد ليو فيراس واحداً من نحو 20 صحفياً قُتلوا في البلاد منذ عام 1991، قُتل حوالي نصفهم على طول الحدود مع البرازيل. لا تزال معظم هذه الجرائم من دون حل حتى اليوم. ومع ذلك، يظل عمل هؤلاء الصحفيين بالغ الأهمية في بلد يحتل المرتبة الرابعة عالمياً في مؤشر الجريمة المنظمة، بعد ميانمار وكولومبيا والمكسيك.

“مينوتور” الحدود

شارع واحد يفصل مدينة بيدرو خوان كاباليرو (المعروفة اختصاراً: بيدرو خوان) عن نظيرتها البرازيلية بونتا بورا. تمرّ السيارات عبر الحدود بسلاسة هناك، تماماً كما يفعل السكان وهم ينتقلون في أحاديثهم بين اللغات الإسبانية والبرتغالية ولغة الغواراني الأصلية.

صور التُقطت في موقع الحدث بمدينة بيدرو خوان كاباليرو عام 2024 (المصدر: فينياس روكيرت / قصص محظورة)

هذا التشابك هو ما يمنح مدينة بيدرو خوان طابع المركز الدولي. فهناك مركز تسوق مموّل من دبي، وشاحنات نقل البضائع تحمل لوحات تسجيل من دول مختلفة، بالإضافة إلى عدد من الفنادق الشاهقة. وبالرغم من هذا النشاط التجاري وما تتيحه الحدود المفتوحة من تقارب بين البلدين، إلا أن الصورة لم تكن دائماً إيجابية.

تُعد بيدرو خوان نقطة عبور رئيسية للتهريب غير القانوني بجميع أنواعه: المخدرات، والأسلحة، والبضائع المقلدة، وحتى البشر. وهذا يدرّ أرباحاً ضخمة على شبكات الجريمة المنظمة مثل “القيادة الأولى للعاصمة” (Primeiro Comando da Capital – PCC)، وهي أكبر عصابة مخدرات في أميركا الجنوبية، وقد ارتفع عدد أعضائها إلى عشرات الآلاف منذ تأسيسها عام 1993.

جلبت هذه العصابات معها موجة من العنف إلى المدينة. في عام 2020، شهدت بيدرو خوان نحو ثلث جرائم القتل في البلاد، مع أنها تضم أقل من 2 في المئة من سكان باراغواي.

تبدو المخاطر هائلة بالنسبة للصحفيين الذين يسعون إلى كشف المجرمين وتحقيق العدالة لعائلات الضحايا. يقول بيبي كوستا، مدير منظمة Mesa para la Seguridad de Periodistas، وهي جهة رقابية معنية بحرية الصحافة في العاصمة أسونسيون، لـ”قصص محظورة”: “ممارسة حرية التعبير والعمل الصحفي في باراغواي نشاط عالي الخطورة، لا سيما في المناطق الحدودية”.

منذ عام 1991، تم تسجيل أكثر من 400 اعتداء على الصحافة في باراغواي. يقول بيبي كوستا إن الغالبية العظمى من تلك الاعتداءات جاءت من جماعات الجريمة المنظمة مثل “القيادة الأولى للعاصمة” (PCC)، التي يُعتقد أنها تقف وراء اغتيال الصحفي ليو فيراس.

ترى سينتيا غونزاليس أن السبب وراء اغتيال زوجها فيراس هو عمله الصحفي الذي تناول الجريمة المنظمة في المنطقة، وتحديداً فضحه مهربين رئيسيين تابعين لتنظيم “القيادة الأولى للعاصمة” PCC. في إحدى الحالات، يُقال إن فيراس أبلغ الشرطة بالهوية الحقيقية لأحد أفراد العصابة الذي تم توقيفه خلال تفتيش مروري روتيني، وكان يحمل وثائق برازيلية مزورة.

لا يعتمد تنظيم “القيادة الأولى للعاصمة” PCC على هيكل هرمي معقد، ومع ذلك يُشتبه بأن أحد قادة التنظيم أصدر أمر اغتيال فيراس من داخل زنزانته، وهو سيرجيو دي أرودا كوينتيليانو نيتو، المعروف بلقب “”مينوتور”.

تكشف وثائق قانونية اطلعت عليها “قصص محظورة” عن مدى حجم وتنظيم إمبراطورية “مينوتور”، الإجرامية. وبحسب إحدى الوثائق البرازيلية التي تم تبادلها مع الادعاء العام في باراغواي، فإن “مينوتور”، مسؤول عن “صفقات كوكايين بملايين الدولارات، بما في ذلك صفقات إلى أوروبا”، بالإضافة إلى تنفيذ اغتيالات، وبناء مدارج سرّية للطائرات، وشراء متفجرات مثل مادة C4.

شكلت مدينة بيدرو خوان مركزاً لتنظيم “مينوتور” وساحة لنفوذه، والذي يمتد إلى ما هو أبعد من المناطق الحدودية. ففي عام 2019، اعتُقل في البرازيل وحُكم عليه في العام التالي بالسجن 40 عاماً. وبالرغم من وجوده في منشأة احتجاز مشددة الحراسة في برازيليا، إلا أنه سعى إلى توسيع نفوذه على مسار تحقيقات الجريمة المنظمة في باراغواي.

ويُشتبه بأن “مينوتور” قام برشوة اثنين من المدعين العامين – هوغو فولبي مازو و أرماندو كانتيرو. كما منحهم هدايا فاخرة كانت كافية لإقناعهما بأرشفة التحقيقات ضد تاجر المخدرات. (لم تتمكن منظمة “قصص محظورة” من التواصل مع كانتيرو، بينما لم يردّ مازو على طلباتنا للتعليق).

العدالة المؤجلة.. عدالة مفقودة

هزّت قضية المدعين العامين الفاسدين البلاد وتسببت بإحراج باراغواي دولياً. كانت المنظومة القضائية في باراغواي ملتزمة، على الورق، بالتحقيق في إمبراطورية “مينوتور” والتعامل مع قضية رشوة كبار المسؤولين. لكن في واقع الأمر، وحسب ما تُظهر الوثائق الداخلية التي حصلت عليها “قصص محظورة”، لم تتجاوز هذه الالتزامات حدود التصريحات الشكلية.

واجهة وزارة العدل في باراغواي / مكتب الادعاء العام (المصدر: بإذن من ABC Color)

في عام 2020، بدأ مسؤولون من باراغواي والبرازيل عملية تجديد اتفاق فريق التحقيق المشترك، المعروف اختصاراً بالإسبانية باسم ECI، للتحقيق في قضايا تتعلق بتهريب المخدرات والجريمة المنظمة، وتم فتح ملف خاص في قضية “مينوتور”.

أثناء التفاوض على الاتفاق، بدا أن المدعين العامين في باراغواي حاولوا دفع المحققين البرازيليين إلى التخفيف من حدة بعض المواضيع، حيث طلبوا من الجانب البرازيلي إزالة “بعض الإشارات.. التي قد تكون غير مناسبة سياسياً”، وفق ما ورد في مسودة وثيقة مؤرخة في تشرين الأول/أكتوبر 2020 حصل عليها تحالفنا الصحفي.

وقال مانويل نيكولاس دولدان بروير، المدعي العام المسؤول عن مديرية الشؤون الدولية في وزارة العدل الباراغوايانية، لأحد أعضاء وحدة التعاون الدولي في مكتب النائب العام البرازيلي: “ليست هناك تغييرات جذرية، بل مجرد تعبيرات أكثر عمومية تشير إلى السلطات والمسؤولين السابقين في بلدي”؛ ورد هذا التصريح في وثائق حصل عليها التحالف.

بعد التوقيع رسمياً على الاتفاق، وانقضاء أقل من عام على بدء التعاون، وجد المدعون العامون في البرازيل أن الدعم من الجانب الباراغواياني كان ضعيفاً للغاية.

في آب/أغسطس 2021، طلب نائب المدعي العام في البرازيل، هيندينبورغو شاتوبريان فيليو، من السلطات الباراغوايانية الاستفسار عن مدى تقدم التحقيق في قضية “مينوتور”. وتساءل عن جدوى الاستمرار في العمل ضمن فريق التحقيق المشترك، نظراً لعدم تلقي أي ردود من الجانب الباراغواياني. وقال فيليو: “كانت محاولات منسق الفريق البرازيلي للحصول على أدلة ومعلومات من السلطات الباراغوايانية عقيمة، بالرغم من الطلبات المتكررة”.

وبعد أشهر عدة ، أعرب ألكسندر أباريسي، المدعي العام البرازيلي المكلف بالقضية، عن قلقه من أن باراغواي لم تتخذ إجراءات حاسمة بشأن المعلومات التي قدّمتها البرازيل في قضية المدعين العامين الفاسدين. وأشار أباريسي إلى وثيقة طلبها في آب/ أغسطس 2021، ولم تكن البرازيل قد تسلمتها حتى تشرين الأول/أكتوبر. (أحالنا أباريسي، في رسالة إلى Forbidden Stories عبر البريد الإلكتروني، إلى المكتب الصحفي للنيابة الفيدرالية. وحتى لحظة كتابة هذا التقرير، لم نتلقَ رداً.)

تواصلت “قصص محظورة” مع مصدر رفيع المستوى في البرازيل مطّلع على القضية، والذي أكد صعوبة التعاون مع باراغواي. وقال المصدر –الذي نتحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية– إن قضية “مينوتور” كانت “صعبة”. شارك الانطباع ذاته مدع عام سابق من الجانب الباراغواياني، الذي قال: “جميع القضايا التي تظهر للعلن والمتعلقة بمحاربة الجريمة المنظمة –وهي قليلة جدًا في الوقت الحالي– هي نتيجة لضغوط كبيرة”.

سيرجيو دي أرودا كوينتيليانو نيتو، المعروف أيضا بلقب “مينوتور”، وبطاقتا هويته المزيفتان (المصدر: بإذن من ABC Color)

مطلع عام 2022، بدا أن المدعين العامين في باراغواي شرعوا في التعاون مع نظرائهم البرازيليين، حيث جرى التخطيط لعقد اجتماع مباشر لمناقشة قضية “مينوتور”. لكن لا يزال من غير المؤكد إن كان الاجتماع قد عُقد بالفعل أم لا. بعد أشهر عدة ُقتل المدعي العام الباراغواياني المسؤول عن القضية، مارسيلو بيتشي، في عملية إعدام بأسلوب عسكري أثناء قضائه شهر العسل مع زوجته في جزيرة نائية قبالة الساحل الكولومبي.

تبرز قضية “مينوتور” نموذجاً لما تقوم به السلطات الباراغوايانية من عرقلة للتحقيقات في قضايا الجريمة المنظمة بشكل منهجي. وتشير بيانات حصل عليها اتحاد “قصص محظورة” عبر طلب بموجب قانون حرية المعلومات إلى أن 12 في المئة فقط من طلبات المساعدة القانونية الدولية التي قدمتها البرازيل إلى باراغواي بين عامي 2014 و2024 تلقت أي نوع من الرد، في حين أن نحو 7 في المئة فقط تمت معالجتها بشكل كافٍ. (لم يردّ مكتب الادعاء العام في جمهورية باراغواي على أسئلتنا التفصيلية).

واجهت دول أخرى أيضاً صعوبة في الحصول على معلومات من مكتب الادعاء الباراغواياني في قضايا جنائية رئيسية، كما أفاد شركاؤنا في OCCRP، من بينها مدعون عامون في الأرجنتين حاولوا تنبيه باراغواي بشأن أنشطة تاجر مخدرات بوليفي على صلة بكارتل أرجنتيني.

ينطبق ذلك أيضاً على التحقيقات في مقتل الصحفيين، التي لم يُحلّ منها سوى عدد محدود حتى الآن.

منذ اغتيال المدعي العام المتخصص في الجريمة المنظمة، مارسيلو بيتشي، فقدت سينتيا غونزاليس، أرملة الصحفي ليو فيراس، أي أمل في أن يحرز مكتب الادعاء تقدماً في قضية مقتل زوجها. وقالت: “لا أحد يُحقق، لأن هذا هو الواقع ببساطة.”

“كوماندو”: الشرطي الباراغواياني الذي لاحق “مينوتور” وحاول اغتياله