ذوو الإعاقة في غزة: أجساد محاصَرة بين الحرب والأنقاض

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر الماضي، يعيش سكان القطاع واحدة من أكثر الفصول دموية في تاريخهم. أكثر من 54 ألف شهيد، وأكثر من 80 ألف جريح حصدتهم القذائف، فيما تتواصل عمليات القصف والحصار الخانق. وفي هذا المشهد المروّع، تعيش فئة فلسطينية المعاناة بشكل مضاعف: ذوو الإعاقة.
تلك الأجساد العاجزة وجدت نفسها عالقة بين أنقاض البيوت، غير قادرة على الفرار أو النجاة. وفي قطاع منهك بفعل الحصار والحرب، ومثقل بالأنقاض، أصبح البقاء على قيد الحياة من التحديات اليومية التي تفوق القدرة الإنسانية أحيانًا.
وقبيل اندلاع الحرب، سُجلت آلاف الإصابات الجديدة، وفق تقديرات مركز الميزان لحقوق الإنسان. ومن بين هذه الحالات، أكثر من 1000 طفل بُترت سيقانهم، وفق تقارير منظمة اليونيسف.

“اتركوني واهربوا”

في اللحظة التي سقط فيها صاروخ على بيت جيرانه، لم يفكر أحمد، العالق في كرسيه منذ سنين طويلة، بنفسه للحظة.. نظر إلى أولاده وصرخ بكل ما أوتي من قوة: “أخرجوا فورًا! الله يلطف بنا. أتركوني هنا وانجوا بأنفسكم”..
أحمد ربّ أسرة فلسطيني من غزة، تعمّق شعوره بالعزلة، ودفعته معرفته بأنه سينزح من عذاب إلى عذاب، إلى الإصرار على عدم إثقال كاهل أولاده بهمه وتأخير هروبهم. في تلك اللحظة، اختار أحمد عائلته، ولم يمانع التضحية بنفسه في مدينة تمزقها الحرب طورًا والحصار طورًا آخر.
هكذا تبدو غزة اليوم بالنسبة للآلاف من ذوي الإعاقة الذين يطاردهم الشعور بعدم القدرة على النجاة.

آلاف المعاقين في دوامة المعاناة والحرب

مشهد أحمد ليس استثناءً في غزة اليوم، حيث يعيش الآلاف من ذوي الإعاقة رهائن عجزهم أمام عنف القصف المتواصل. لا حول لهم ولا قدرة على الهرب، ولا مأوى آمنًا ينتظرهم.
وحيث إن معاناة ذوي الإعاقة لا تُحتمل في أوقات السلم، ولا تميّز بين طفل وكهل، فما بالك بأوقات الحرب؟ الإجراءات الإسرائيلية المشددة والحرب على القطاع تسببت بإعاقات حركية لأكثر من ألفي شخص، وفقًا لدراسة بحثية. الدراسة، بتوقيع د. إسلام موسى عطا الله، لم تسلط الضوء فقط على الإعاقات على اختلافها (سمعية وحركية وبصرية وذهنية)، بل على انعكاسات الحرب التي تضاعف من معاناة هؤلاء الأفراد، وتنتهك كل حقوقهم الإنسانية بفعل الحرمان من أدنى مقومات العيش، كالمأكل والطبابة والكهرباء، والحصار الجسدي الذي يمنعهم حتى من الفرار. ويعاني الآلاف من الأشخاص ذوي الإعاقة من صعوبة العثور على مأوى ملائم، والحصول على المياه والغذاء والدواء، والأجهزة المساعدة مثل الكراسي المتحركة، والمشايات، وأجهزة السمع، والفرشات الطبية الهوائية للمقعدين حركيًا التي يحتاجون إليها بشدة. كما أدى انقطاع الكهرباء إلى صعوبات كبيرة في إجلاء الأشخاص ذوي الإعاقة من المباني المرتفعة.

حصار الجسد.. حصار الروح

يواجه ذوو الإعاقة في غزة أزمات متراكمة: الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 17 عامًا كان كفيلاً بخنق القطاع قبل الحرب. أما اليوم، فبات الوصول إلى أبسط مقومات الحياة ضربًا من المستحيل.
يُحرم الآلاف من مأوى ملائم أو أجهزة مساعدة (كراسي متحركة، أطراف صناعية، أدوات سمعية، فرشات طبية)، أو حتى مياه نظيفة وطعام ودواء.
ديما، طفلة تعاني من التهاب حاد في الشعب الهوائية منذ ولادتها، تحتاج إلى جهاز أكسجين للبقاء على قيد الحياة. لكن انقطاع التيار الكهربائي المتكرر يهدد حياتها في كل لحظة. تقول والدتها: “كل مرة ينقطع التيار، أمسكها بين ذراعي وأراقب لونها يتحول إلى الأزرق… أنتظر عودة الكهرباء كمن ينتظر معجزة.”
أما نهلة، المقعدة منذ سنوات، فتخوض يوميًا معركة من أجل الحركة. كرسيها الكهربائي يحتاج إلى شحن يستمر 6 إلى 8 ساعات. “حين تنقطع الكهرباء، لا أتحرك. لا أستطيع حتى الهرب لو قصفوا الحي. أنتظر الموت وأنا في مكاني.”

قنبلة صامتة: الإعاقات السمعية

أدت الانفجارات المتكررة في غزة إلى ازدياد حالات الإعاقة السمعية، خاصة بين الأطفال وكبار السن، حسب وزارة الصحة في غزة. هؤلاء الأشخاص يُحرَمون من أبسط وسيلة لحماية أنفسهم، فلا يسمعون صافرات الإنذار، ولا التحذيرات، ولا أصوات الطائرات والمسيرات المغيرة.
صابرين، المصابة بإعاقة سمعية، تقول: “أراقب وجوه الناس من حولي لأفهم متى يجب أن أهرب مع أطفالي. كل لحظة تأخير قد تكون قاتلة.” ومع ذلك، أحيانًا يكون القصف قويًا لدرجة أني أشعر بالبنيان يهتز حولي.

النزوح.. رحلة مضنية


معاناة جديدة تُضاف إلى قائمة معاناة ذوي الإعاقة: التهجير القسري الذي بات جزءًا يوميًا من حياة الغزيين. بالنسبة لذوي الإعاقة، يحمل النزوح معنى آخر. تقدّر دراسة بحثية محلية، نزوح ذوي الإعاقة ما بين مرة واحدة و15 مرة منذ اندلاع الحرب.
ومع كل رحلة فرار، يفقد كثيرون منهم أدواتهم المساعدة: الكراسي المتحركة، والعكازات، والسماعات، والأطراف الصناعية. ويجعل الفقر المدقع، وندرة الموارد، والحصار، أي تعويض للخسائر بحكم المستحيل.
يعلّق اختصاصي العلاج الانشغالي والتأهيل محمد شريف حمية في هذا السياق بالقول إن “ذوي الإعاقة يعانون بالأصل من معاناة مفزعة على أكثر من مستوى، خصوصًا في العالم العربي، حيث تتفاوت إمكانيات التجهيز التي تلبي الاحتياجات. فما بالك بالمعوّقات المكانية عالية الخطورة تحت القصف أو على الطرقات؟ ذوو الإعاقة مسلوبو الحقوق، وهذه الحرب خلّفت وستخلّف الكثير من الإعاقات الجسدية والنفسية. لكن الحرب لم توفّر حتى الطواقم المهنية والمؤسسات الإنسانية التي تسعى لإحداث تغيير إيجابي، وإعادة التأهيل نفسيًا وجسديًا وحسيًا وفكريًا، وتحويل الضعف إلى نقطة قوة. وضُربت العديد من المراكز كما قُصفت المستشفيات. وإلى جانب العامل الجسدي، لا يمكن التغاضي عن الجانب النفسي، حيث يعيش ذوو الإعاقة حالة من القلق والخوف من عدم القدرة على النجاة، وقد يميل البعض لتحميل نفسه الملامة لعدم قدرته على المساعدة.”

أبواب الأمل مغلقة

وبينما يشقى ذوو الإعاقة في التنقل في أحياء غزة التي خنقها الردم، وأكثر من 260 ألف طن من النفايات، وفقًا لبلدية غزة، تتقلص أعداد المؤسسات التي تُعنى بتقديم المساعدة لهذه الفئة. واستهدفت الضربات الإسرائيلية مرافق طبية وإنسانية كانت تقدّم خدمات حيوية لذوي الإعاقة، بينها: مستشفى الشيخ حمد للتأهيل والأطراف الصناعية، ومستشفى الوفاء للتأهيل الطبي، ومركز الأدوات المساعدة التابع للإغاثة الطبية، ومدينة الأمل لبناء القدرات التابعة للهلال الأحمر، ومقر الاتحاد الفلسطيني العام للأشخاص ذوي الإعاقة.
هذا التدمير يُغلق أبواب الأمل أمام الآلاف ممّن يحتاجون إلى جلسات علاج طبيعي، وتركيب أطراف صناعية، أو إعادة تأهيل.

الأطفال والمجاعة.. ثمن الحرب الباهظ

من بين الضحايا الأكثر هشاشة، الأطفال.. أكثر من ألف طفل بُترت سيقانهم منذ بدء الحرب. قصصهم تصدم الضمير الإنساني. طفل بقدم واحدة يتعلم المشي من جديد وسط الركام. طفلة فقدت ذراعيها وهي في حضن أمها. صورهم تملأ المستشفيات المؤقتة، حيث يحاول الأطباء إنقاذ ما تبقّى من طفولتهم.

وفي سياق متصل، حذرت لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري من أن “نفاد الغذاء في قطاع غزة، إلى جانب الدمار الواسع النطاق، والأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية للمياه والكهرباء، تعرّض السكان المدنيين، وخاصة الفئات الضعيفة مثل الأطفال والنساء وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة، لخطر المجاعة والمرض والموت الوشيك.”

وعلى قائمة المخاطر أيضًا، القتل أو الاعتقال، حيث قد تصل القوات الإسرائيلية حد استهداف ذوي الإعاقة مباشرة. وقدّر مركز الميزان لحقوق الإنسان في فبراير 2024 أن “أكثر من 58 ألف فرد من الأشخاص من ذوي الإعاقة يتعرضون في قطاع غزة لانتهاكات جسيمة خلال العدوان العسكري الإسرائيلي الواسع والمستمر، والذي أدى إلى استشهاد وإصابة المئات منهم. ووفق التقديرات الأولية؛ فمن المتوقع أن يُخلف العدوان العسكري نحو 12 ألف حالة إعاقة جديدة، من بين أكثر من 67 ألف إصابة نجمت عن الغارات والقصف الإسرائيلي.” كما نُقل عن المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، جيمس إلدر، “بتر سيقان أكثر من ألف طفل في قطاع غزة، وشملت عمليات البتر إما ساقًا واحدة أو الساقين.”

صرخة إلى العالم

على الرغم من مصادقة إسرائيل عام 2012 على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، ومطالبة قرار مجلس الأمن رقم 2475 بحماية المدنيين ذوي الإعاقة وتسهيل وصول المساعدات إليهم، فإن الواقع في غزة يروي قصة مختلفة.
ذوو الإعاقة يُتركون لمصيرهم في حرب لا تميّز بين مقاتل وعاجز. وفي غزة اليوم، تحوّل جسد المعاق إلى ساحة معركة: صراع مع الإعاقة، ومع الجوع، ومع الحصار.. ومع صمت العالم. وأمام كل صاروخ يسقط، يزداد الشعور بأن هؤلاء الأجساد العاجزة محاصَرة.. بلا مفر، ولا أمل.