حرية الصحافة في العراق: بين التهديدات والإفلات من العقاب

أظهر تقرير مؤشر حرية الصحافة الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود”، والذي نُشر في السادس من أيار/مايو بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، تحسناً في موقع العراق، الذي تقدَّم إلى المرتبة 155 بعد أن كان في المرتبة 169. لكن هذا التحسّن الطفيف لم يقابله أي تقدم ملموس على أرض الواقع، وفقاً لصحفيين عراقيين ومؤسسات معنية بالدفاع عن حرية الصحافة، أكدت استمرار الانتهاكات بشكل دوري وبصور متعددة، تتراوح بين الاعتقال والخطف واقتحام المؤسسات الإعلامية وترويع العاملين فيها.
فما هو واقع الحريات الصحفية في العراق؟ وكيف يُنظر إلى تقدم العراق على مؤشرات حرية الصحافة الدولية؟

عام ونصف من الخذلان والأنتظار

لا يكاد يخلو محتوى منصات التواصل الاجتماعي من مقاطع تُظهر اعتداءات على صحفيين في العراق. مشاهد تتكرر حتى باتت أقرب إلى الروتين اليومي: صحفي يُضرب، أو يُهدَّد، أو يُلاحَق قضائياً، فقط لأنه مارس حقه في نقل الحقيقة.

هذا ما جرى مع الصحفي حسن نبيل، الذي وجّه عبر حسابه الشخصي في 6 أيار 2025 رسالة مفتوحة إلى مجلس القضاء الأعلى ووزارة الداخلية، مطالباً بإنصافه بعد حادثة تعرّض لها خلال عمله الصحفي في 27 آذار 2023. يروي نبيل لـ”عابر” أنه كان يُغطّي أحداثاً وسط العاصمة بغداد تتعلق بمصرف “الطيف الإسلامي”، حين قام مسلحون يعملون في شركة أمنية خاصة باقتياده وزميله من الشارع إلى داخل المصرف بالقوة، حيث احتُجزا في غرفة حديدية، وتعرّضا للاعتداء الجسدي والتحقيق دون أي سند قانوني، محتفظاً ببعض المقاطع المصوّرة التي تُظهر بعض مشاهد الاعتداء.

ورغم توثيق الحادثة بالشهادات والمقاطع المصوّرة، فإن الدعوى القضائية – بحسب نبيل – لم تُحسم حتى الآن، بعد أكثر من سنة ونصف من الانتظار، مطالباً بـ”أقصى العقوبات بحق من يعتدي على الصحفيين”، ومؤكداً حجم الضغوط المتزايدة التي يواجهها لمجرد ممارسته لعمله الصحفي.
وقال نبيل لـ”عابر”: “في وقت يمتلك فيه الطرف الآخر أموالاً ونفوذاً، بقيت مكشوفاً، من دون حماية، وكأن شيئاً لم يحدث، رغم ترويعي، وإطلاق النار اتجاهي، وتعرّضي للخطف”. وأضاف: “هذه الحادثة أثرت فيّ نفسياً وصحياً بشكل كبير، فمنذ ذلك اليوم أعاني من ضغط نفسي شديد، وارتفاع في ضغط الدم، وأتلقى العلاج حتى الآن“.

أما على المستوى المهني، فقد تم فصله من عمله في القناة التي كان يعمل بها بعد فترة وجيزة من الحادثة، من دون حصوله على مستحقاته المالية، حسب قوله.

انتهاكات مستمرة

قصة نبيل ليست استثناءً، بل واحدة من عشرات القصص التي تُنتهك فيها حرية العمل الصحفي في العراق، إضافة إلى مشاهد الاقتحامات المتكررة لمقار مؤسسات إعلامية عراقية وعربية وتحطيم محتوياتها من قبل جماعات معروفة، لمجرد طرح ضيوفها آراءً تخالف توجهات تلك الجماعات.

وفي آذار الماضي، اعتقلت قوات الآسايش في محافظة السليمانية بإقليم كردستان العراق ثلاثة صحفيين أثناء تأدية عملهم، من دون الكشف عن الأسباب أو إصدار أوامر قضائية، وفقًا لما ذكرته جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق آنذاك.

وفي بيان رسمي، أوضحت الجمعية أن مؤسسة “ميديا 21” أبلغتها بأن الصحفيين جرى اعتقالهم خلال ممارسة مهامهم الصحفية، من دون اتباع الإجراءات القانونية المتبعة. كما أفاد عدد من الصحفيين بأن الأجهزة الأمنية اعتقلت الصحفيين نبز شيخاني ودانا صالح، فيما اقتادت قوة أمنية الصحفي بشكدر بازياني إلى جهة مجهولة.

وأدانت الجمعية في بيانها ما وصفته بـ”القمع المتكرر للحريات الصحفية” في إقليم كردستان، داعيةً السلطات إلى الإفراج الفوري عن الصحفيين ووقف “السياسات الممنهجة للتضييق على حرية الصحافة”. كما شددت على ضرورة احترام الأعراف والمواثيق الدولية، والالتزام بالدستور العراقي الذي يكفل حرية الإعلام والعمل الصحفي.

تحسّن نسبي في المؤشرات الدولية… لكن الواقع مختلف

رغم التحسن الطفيف في تصنيف العراق ضمن مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2025، إلا أن هذا التقدّم لا يعكس بالضرورة واقعاً أكثر حرية أو أماناً للعمل الصحفي. ففي الميدان، لا تزال البيئة الإعلامية تعاني من تضييقات حادة وانتهاكات متكررة، بعضها ممنهج، وسط غياب حقيقي للمساءلة، واستمرار الإفلات من العقاب.

ووفقاً لتقرير “مراسلون بلا حدود” لعام 2025، جاء العراق في المرتبة 155 من أصل 180 دولة، متقدماً 14 مرتبة عن تصنيفه في العام السابق. ورغم أن هذا التحسن يُشير إلى بعض الجهود لتحسين البيئة الإعلامية، فإن التقرير ذاته يؤكد أن العراق لا يزال من أكثر البيئات خطراً على الصحفيين، خصوصاً في ظل استمرار ظاهرة قتل الصحفيين دون محاسبة، وغياب إصلاحات قانونية جادة لحماية حرية التعبير.

من جانبه، يشير تقرير صادر عن جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق (PFAA) إلى تسجيل 457 انتهاكاً ضد الصحفيين والمؤسسات الإعلامية خلال الفترة من 1 كانون الثاني حتى 2 تشرين الأول 2024. شملت هذه الانتهاكات حالات قتل، واعتقالات تعسفية، واحتجازات مؤقتة، وهجمات مسلحة، وتهديدات، ودعاوى قضائية، وقيوداً على التغطية الإعلامية.

من بين هذه الانتهاكات، وثّق التقرير ثلاث حالات قتل لصحفيين، و23 حالة اعتقال، و11 حالة احتجاز، وسبع هجمات مسلحة. كما أشار إلى 280 حالة عرقلة أو منع من التغطية، و68 دعوى قضائية بموجب قوانين التشهير والنظام العام. وتم أيضاً تسجيل تسع حالات حظر أو تقييد لمواقع إلكترونية وبرامج تلفزيونية وحسابات صحفيين، إضافة إلى عشرات حالات التهديد بالقتل عبر الهاتف أو منصات التواصل الاجتماعي.

وفي إقليم كردستان وحده، سُجّلت 45 حالة انتهاك شملت الاعتقالات، ومصادرة المعدات، والملاحقات القضائية.

التناقض القانوني: بين الدستور وقوانين العقوبات

ينص الدستور العراقي في مادته 38 على ضمان حرية التعبير والصحافة، إلا أن القوانين النافذة، مثل قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969، لا تزال تُستخدم لمعاقبة الصحفيين، حيث تنص بعض مواده على السجن والغرامات المشددة في حال انتقاد المسؤولين أو كشف معلومات “تضر بالمصلحة العامة“.

غياب قانون موحد لحماية الصحفيين، وتأخر تشريع قانون حرية التعبير، ساهما في جعل الصحافة العراقية رهينة لأهواء السلطات السياسية والحزبية، التي تستخدم نفوذها للضغط على المؤسسات الإعلامية أو تقييدها مالياً وإدارياً. وتُستخدم أدوات مثل سحب التراخيص، وقف التمويل، أو الملاحقة القضائية لإسكات المؤسسات المستقلة، وهو ما دفع العديد منها إلى الإغلاق أو تقليص نشاطها.

وفي حديثه لـ”عابر”، يحدّد الصحفي منتظر ناصر ثلاثة تحديات رئيسية تواجه الصحافة العراقية: التهديدات الأمنية، والتشريعات القمعية، وهيمنة المال السياسي. يقول ناصر: “التحدي الأمني هو الأول والأخطر، حيث يبقى الصحفي دائماً عرضة للتهديد في ظل انتشار السلاح المنفلت والجماعات المسلحة”، مشيراً إلى أن الإفلات من العقاب أصبح قاعدة تشجع المعتدين على التمادي دون خوف من المحاسبة.

ويلفت ناصر إلى أن القوانين الموروثة من الحقبة الشمولية، مثل المادة 226 من قانون العقوبات، تُستخدم لتكميم الأفواه، إذ تعاقب من “يسيء إلى مؤسسات الدولة” بتفسير فضفاض يشمل أي نقد علني.

وفي حزيران 2024، اعتُقل الصحفي زياد السنجري في الموصل بعد نشره تحقيقاً عن الفساد، بتهمة “الابتزاز وانتحال الصفة”، كما تعرّض الصحفي جمال البدراني لاعتداء مسلح في المدينة نفسها بعد تغطيته ملف فساد مالي، ولم تعلن نتائج التحقيق حتى الآن.

الإعلام المستقل تحت الضغط: البيروقراطية وسلاح التمويل

يواجه الإعلام المستقل في العراق تحديات متزايدة، إذ تعاني المؤسسات غير المرتبطة بالأحزاب من أزمات مالية وضغوط بيروقراطية تعيق إصدار التراخيص وتجديدها، إضافة إلى مضايقات قانونية دفعت بعضها إلى تقليص نشاطها أو الإغلاق الكامل.

ونشر معهد صحافة الحرب والسلام (IWPR) مقالاً في 3 أيار 2024 بعنوان “فترة حساسة في العراق”، سلّط فيه الضوء على التحديات المتزايدة التي تواجه حرية الصحافة، مشيراً إلى أن الصحفيين العراقيين يواجهون بيئة قمعية، حيث تُستخدم أساليب بيروقراطية معقدة ومكلفة لتسجيل المنصات الإعلامية.

ويشير منتظر ناصر إلى أن “المال السياسي” بات أحد أبرز التهديدات للإعلام المستقل، حيث تُسيطر جهات حزبية على معظم المنصات الكبرى، بينما تكافح المؤسسات الحرة للبقاء وسط موارد محدودة ومضايقات متصاعدة.

ويطالب صحفيون عراقيون بتوفير الحماية من العنف والتهديدات، وضرورة وجود بيئة تشريعية تضمن استقلالية العمل الإعلامي، وسن قوانين حديثة تحصّن الصحفيين من الاستهداف والملاحقة، وتمنع اعتقالهم بسبب آرائهم أو تقاريرهم، بما يكفل حقهم في ممارسة مهنتهم بحرية وأمان.