أسرى على رمق الحياة: قصص الموت البطيء والإعاقة خلف قضبان الاحتلال

عابر – فلسطين

خرج فاقدًا بصره وساقه

من بين جدران السجون الرطبة والمظلمة. خرج الشاب محمود أبو فول (28 عامًا) من محافظة الوسطى – الزوايدة، بعد ستة أشهر من الاعتقال، برجلٍ مبتورةٍ وعينين فقدتا البصر، ليروي فصلًا جديدًا من فصول التعذيب الذي يتعرض له الأسرى الفلسطينيون داخل سجون الاحتلال.

يروي محمود، الذي بُترت رجله في قصفٍ إسرائيلي عام 2015، قصته الموجعة؛ فقد اعتُقل على يد الجيش الإسرائيلي من مستشفى كمال عدوان نهاية العام الماضي أثناء تلقيه العلاج، وتعرّض للتعذيب الشديد بأشكالٍ عدة مع عددٍ من الأسرى داخل مراكز الاحتجاز الانفرادي.

ويصف اللحظة القاتمة قائلًا: “تلقّيت ضرباتٍ على الرأس أدخلتني في غيبوبة، وبعد ساعتين استيقظت فاقدًا للبصر. استمر التعذيب ذاته بعدها لثمانية أشهر دون أي علاج من إدارة السجون الإسرائيلية، واليوم، بعد الإفراج عني، علمت من الكوادر الطبية بعدم وجود أي علاج لي”، بحسب أبو فول.

ومنذ السابع من أكتوبر 2023، انقلبت الحياة لدى الشعب الفلسطيني، ليس داخل قطاع غزة فقط، ممن ذاقوا ويلات الحرب والقتل والنزوح والتشريد، بل أيضًا في السجون الإسرائيلية، التي ابتكر فيها جنود الاحتلال أساليب جديدة ممنهجة للتعذيب، أكثر وحشية وعدوانية تجاه الفلسطينيين، سواء ممن اعتُقلوا قبل السابع من أكتوبر أو ممن اعتُقلوا خلال الحرب بعدها من أبناء القطاع.

الأرقام الصادمة للأسرى والإعاقة


بحسب إحصاءات منشورة من هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين، يبلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال أكثر من 11 ألفًا و100 أسير، غالبيتهم من المعتقلين الإداريين (أي دون لوائح اتهام واضحة) والموقوفين. ويُشير الإحصاء إلى أن هذا الرقم لا يشمل المعتقلين المحتجزين في معسكرات جيش الاحتلال، في حين يزيد عدد أسرى غزة عن 4 آلاف أسير منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023. وبعد تنفيذ صفقة التبادل الأخيرة لوقف الحرب، يُقدَّر عدد الأسرى المتبقّين في سجون الاحتلال بأكثر من 9100 أسير، وهم فقط من يُحتجزون في السجون المركزية.

تلاشى الأرقام أمام الألم

أمّا جبريل خالد (46 عامًا) من مدينة غزة – حي الدرج، والذي اعتُقل لمدة سنة وستة أشهر، فقد خرج من سجون الاحتلال على كرسي متحرّك بعد بتر قدمه نتيجة مضاعفات التعذيب والضرب المستمر اللذين تعرّض لهما داخل السجن.

ويصف بألم: “رغم وضعي الصحي وإصابتي بمرض السكّري، إلا أنني تعرّضت في إحدى جلسات التحقيق للضرب الشديد من قبل جنديين، قاما بضرب رأسي في الحائط أكثر من 13 ضربة متتالية، وعلى كِلْيتي. طلبت بعدها نقلي للعلاج، إلا أنهم ماطلوا حتى تفاقم الأمر إلى حدّ بتر قدمي.”

ويتابع جبريل: “رغم عملية البتر، خضعتُ للاستجواب بعد أيام، وتعرّضتُ للضرب على رجلي المبتورة، واستمرّ هذا الحال حتى الإفراج عني.”

فنون التعذيب للأسرى

“قام أحد الجنود بحرق عيني اليمنى بسيجارة، وأطفأها أسفلها.” يروي الشاب طه رائد (اسم مستعار، 27 عامًا) من سكان شمال غزة – مخيم جباليا، فصولًا مما عاشه في سجون الاحتلال لمدة خمسة أشهر، بعد اعتقاله على حاجز “نتساريم” خلال نزوحه إلى الجنوب رفقة عائلته في نوفمبر 2023. وقد تعرّض للضرب الشديد والتنكيل خلال عمليات التحقيق المتكرّرة التي استمرّت لساعاتٍ طويلة، في ظروف اعتقال قاسية للغاية، ظلّ خلالها أيامًا دون ملابس في البرد القارس.

ويوضح: “كانت المهاجع صغيرة وباردة وخالية من التهوية. كنا نرتدي بدلة خفيفة، ومعنا بطانية رقيقة لا يتجاوز سمكها سنتيمترين، وغطاء خفيف لا يقي من البرد، مكبّلين طوال الوقت، محرومين من كل سبل الراحة، والطعام الكافي، والماء القليل.”

ويصف أبشع أساليب التعذيب النفسي والجسدي قائلًا: “كان الجنود يدخلون الغرف فجأةً فجرًا، ويطلبون منا الانبطاح على بطوننا. يقومون بضربنا أحيانًا، أو يجعلون الكلاب المدرَّبة تقف على ظهورنا، أو يتبولون علينا. كما كانوا يهددون بقتل أهلنا واغتصاب نسائنا كوسيلة ضغطٍ للاعتراف بانتمائنا للمقاومة.”

سجناء فوق أنقاض جنيف الرابعة

يؤكد الحقوقي سمير زقوت، نائب مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة، أن اتفاقية جنيف الرابعة هي الإطار المنظم لأوضاع المدنيين والأسرى والإغاثة في حال وجود دولة تحت الاحتلال وخلال الحروب، وهو ما ينطبق على فلسطين، خاصة قطاع غزة.


ويشير زقوت إلى أن الاحتلال الإسرائيلي، رغم مصادقته على بنود الاتفاقية، ينتهك كافة موادها ولوائحها في التعامل مع الأسرى داخل سجونه.
وأوضح أن الاحتلال يتعامل مع الأسرى الفلسطينيين المعتقلين من الضفة الغربية على أنهم “معتقلون إداريون”، ما يمنحه مبررات لتمديد الاحتجاز التعسفي وتكريس الاعتقال الإداري كأداة للقمع.

من أسير إلى مقاتل

أما فيما يخص معتقلي غزة، فيوضح الحقوقي سمير زقوت أن معاملتهم تقوم على أساسين مختلفين: فقبل السابع من أكتوبر، كانوا يُصنَّفون تحت مسمى “أسير حرب”. أما بعد الحرب على غزة، فأصبحوا يُدرجون تحت بند “مقاتل غير شرعي”.
ويشير زقوت إلى أن القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان يمنحان الحق للأسير في نيل تعويض عادل من الجهة المسببة للضرر، إلا أن الواقع داخل فلسطين يختلف، لعدم اعتراف الاحتلال بهذا الحق المكفول بالقوانين للأسرى.
ويتجاوز الرفض مطالبات التعويض إلى منع المنظمات الدولية من إجراء زيارات للاطلاع على أوضاع الأسرى داخل السجون، رغم المرافعات والقضايا المرفوعة في المحاكم الدولية.


ويختتم زقوت موضحًا أن مطالب الأسرى تتركز حول إعادة الأوضاع داخل سجون الاحتلال إلى ما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر، بسبب الارتفاع غير المسبوق في معدلات العنف والتعذيب والتنكيل، مؤكدًا على ضرورة ضمان منع الأساليب القمعية ومنح الأسرى كافة الحقوق التي كفلها القانون الدولي.

وحشية الاعتقال

يصرح علاء السكافي، مدير مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان في غزة لـ”عابر”، بأن واقع المعتقلين الفلسطينيين، خاصة من قطاع غزة، شهد منذ السابع من أكتوبر تدهورًا غير مسبوق في ظروف الاحتجاز داخل سجون ومعتقلات الاحتلال الإسرائيلي.
ويؤكد السكافي أن هذه المرحلة شكلت نقطة تحول خطيرة في سياسات الاحتلال تجاه الأسرى، إذ أصبح التعامل معهم يتسم بالوحشية والانتقام الممنهج. ويشير إلى أن ممارسات غير إنسانية وسادية تُنفذ بشكل مستمر من خلال وحدات قمع متخصصة وبمشاركة الكلاب المتوحشة.
ويتابع السكافي أن مؤسسة الضمير، في ظل متابعتها وزياراتها للمعتقلين، حصلت على إفادات وشهادات تفيد بممارسة الاحتلال الاعتداءات الجنسية والاغتصاب بطريقة ممنهجة كنمط سائد في معظم السجون الإسرائيلية، وهو ما يمثل مخالفة صارخة للقانون الدولي الإنساني باعتباره أحد جرائم التعذيب التي يجب محاسبة مرتكبيها، بالإضافة إلى سياسة الإهمال الطبي المتعمد المستخدمة كأداة للتعذيب.

سياسة القتل البطيء

شددت هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني في تصريح حديث، بعد مقتل أسيرين في سجون الاحتلال، على أن تسارع وتيرة قتل الأسرى والمعتقلين بهذه الصورة غير المسبوقة يؤكد استمرار منظومة السجون الإسرائيلية في تنفيذ سياسة القتل البطيء بحقهم، إذ لم يعد يمر شهر دون تسجيل قتيل جديد بينهم.
وحملت الهيئات سلطات الاحتلال المسؤولية الكاملة عن قتل المعتقلين، مطالبة بفرض عقوبات دولية واضحة تعزل الاحتلال وتعيد للمنظومة الحقوقية دورها الأساسي، وتضع حدًا لحالة العجز المروعة التي أصابتها خلال حرب الإبادة، وإنهاء الحصانة الاستثنائية التي تمنحها قوى دولية للاحتلال، وكأنه كيان فوق القانون والمساءلة والمحاسبة.