عصابات وانتهاكات داخل السجون العراقية.. تركة ثقيلة تفضحها مقاطع التعذيب الأخيرة في سجن التاجي

بينما كان الجدل السياسي مشتعلاً قبيل القمة العربية المرتقبة في بغداد ، اجتاحت مواقع التواصل في العراق موجة غضب بعد تسريب مقاطع فيديو من داخل سجن التاجي شمالي بغداد، تُظهر سجناء من بغداد والنجف وهم يتعرضون للعنف والتعذيب والإهانة، وسط غياب واضح للرقابة.
المقاطع، التي قيل إن بعضها يعود لفترات سابقة، وثّقت اعتداءات جسدية وجنسية، متبادلة يقوم بها السجناء على مجموعة من النزلاء الآخرين ما أثار تساؤلات جدية حول حقيقة الدور الإصلاحي للسجون العراقية، وهل تحوّلت إلى بيئة خصبة لهيمنة العصابات وتصفية الحسابات بعيدًا عن القانون؟
العدل ترد: المقاطع قديمة والنزلاء خارج السجن
عقب الضجة التي أثارتها مقاطع التعذيب المسرّبة، سارعت وزارة العدل إلى إعلان عزل مدير سجن التاجي وتشكيل لجنة تحقيق، في إجراء وصفه متابعون بأنه تكرار لردود حكومية تقليدية في الأزمات.
المتحدث باسم الوزارة، أحمد لعيبي، قال في تصريح خاص لـ”عابر” إن “معظم المقاطع تعود لفترات سابقة”، مؤكدًا أن الوزارة تعتمد سياسة رفع الدعاوى القضائية لمواجهة أعمال الشغب داخل السجون.
وأضاف أن النزلاء الظاهرين في الفيديوهات أُطلق سراح أغلبهم ضمن قانون العفو العام، متهمًا جهات لم يسمّها بمحاولة التسقيط السياسي.
في السياق ذاته، اتهم مدير دائرة الإصلاح، د. ماجد المنذور في بيان ، جهات غير معروفة بشن “حملات تشويه ممنهجة” تستهدف جهود محاربة الفساد، مؤكداً استمراره في موقعه رغم “محاولات النيل من سمعته”.

عصابات تفرض سطوتها داخل السجون
على عكس المفترض من أن تكون السجون مؤسسات إصلاحية قائمة على المساواة، يكشف مصدر في المفوضية العليا لحقوق الإنسان – فضّل عدم ذكر اسمه – لمنصة “عابر”، أن “عصابات نافذة تسيطر على السجون العراقية، بعضها يمتد خارج القضبان، ويضم مشاهير يحكمون بقوة المال والسلطة”.
وأضاف أن “السجون تحوّلت إلى غابات تحكمها القوة، وهو ما أكدته المقاطع المسربة، حيث توثق تواصلاً مستمرًا بين هذه العصابات داخل السجن، واستعراضًا لسطوتهم ونزاعاتهم”.
وأشار إلى “تواطؤ بعض الجهات الرقابية في غض الطرف عن هذه الانتهاكات خلال إجراءات التفتيش، ما يعكس خللًا إداريًا وأمنيًا خطيرًا يستدعي تحركًا عاجلًا”.

تركة ثقيلة.. من أبو غريب إلى التاجي
يؤكد ناشطون وحقوقيون أن ما يجري داخل السجون العراقية هو امتداد لتركة ثقيلة من الانتهاكات المتوارثة، في ظل غياب الرقابة وحقوق الإنسان، وآخرها ما كشفت عنه المقاطع المصوّرة من تعذيب وقتل واعتداءات جنسية.
وتقول المدافعة عن حقوق الإنسان، هالة مجيد، لـ”عابر”: “ما وثقته المقاطع الأخيرة لا يقلّ فظاعة عمّا ارتكبه الجنود الأمريكيون في سجن أبو غريب”، مستذكرةً مقتل المهندس بشير خالد تحت التعذيب قبل نحو شهر.
وتُحمّل مجيد السلطات العراقية مسؤولية مباشرة، مؤكدة أن “ما يحدث ينتهك القانون الدولي والكرامة الإنسانية”، لافتة إلى أن العراق طرف باتفاقية مناهضة التعذيب منذ 2011، والتي تُلزم بإنشاء آليات رقابة مستقلة على السجون.

من جانبه يرى المحامي محمد سامي الساعدي هو الأخر، في تصريح لـ”عابر”، أن “السجون تمثل مرآة النظام القضائي، ومقياسًا لاحترام حقوق الإنسان في أي دولة، لكن ما كُشف مؤخرًا في العراق يُعد كارثة إنسانية وقانونية لا يمكن التغاضي عنها”.
ويُذكّر الساعدي بأن الدستور العراقي لعام 2005 يقرّ بحقوق وضمانات للنزلاء، تُلزم السلطات بحمايتهم، مؤكدًا أن “غياب الرقابة أو ضعف الكوادر لا يعفي من المساءلة القانونية، وفق مبدأ المسؤولية التسلسلية، التي تشمل الحراس، الإدارة، وضباط ومديري السجون”.
ويشير إلى أن منظمات حقوقية وثّقت مرارًا “اعتماد اعترافات منتزعة تحت التعذيب”، مؤكدًا أن الانتهاكات لا تقتصر على السجناء فيما بينهم، بل تمتد إلى مراحل التحقيق.
دعوات لرقابة قضائية صارمة
ومع تكرار شكاوى التعذيب أثناء التحقيق، يطالب الساعدي بفرض رقابة قضائية صارمة على مراكز الاحتجاز، مشيرًا إلى أن “المتهمين أو ذويهم يطلبون غالبًا إحالتهم إلى لجان طبية بعد تعرّضهم للتعذيب”.
وأضاف أن بعضهم “أقام دعاوى قضائية ضد ضباط التحقيق، بعد ثبوت استخدام العنف أو انتزاع الاعترافات بالإكراه”، داعيًا إلى إشراف مشترك من القضاء ومنظمات حقوق الإنسان، وتنظيم زيارات مفاجئة، وفصل النزلاء حسب نوع الجريمة لتفادي احتكاك غير العنيفين بالمجرمين الخطرين.
إحصائيات صادمة

وكانت منصة “عابر” قد كشفت في تحقيق سابق عن ارتفاع معدلات التعذيب داخل السجون العراقية، استنادًا إلى توثيقات من منظمات محلية ودولية، أكدت وقوع انتهاكات واسعة النطاق ووفاة معتقلين تحت التعذيب. ورغم تحرّك الحكومة لمحاولة احتواء الأزمة وتحسين سجلها الحقوقي، إلا أن الانتهاكات لا تزال مستمرة.
وبحسب تقرير صادر عن شبكة العدالة للسجناء نهاية عام 2024، فإن 27% من السجون العراقية لم تخضع لأي تفتيش دولي، وسط غياب المعايير الهندسية، وخصوصًا ما يتعلق بتأهيل البيئة لذوي الاحتياجات الخاصة.
فيما اوضح تقرير سابق للأمم المتحدة (2021) أن نصف المعتقلين تعرّضوا للتعذيب أثناء التحقيقات، بهدف انتزاع اعترافات، فيما أكدت منظمة العفو الدولية وجود اكتظاظ تجاوز 300% من الطاقة الاستيعابية، مع انهيار شبه تام للخدمات الصحية، واستشراء ممارسات التعذيب.
ملف شائك ..
في أبريل 2025، أعادت حادثة وفاة المهندس بشير خالد تحت التعذيب، الضوء على هذا الملف، ما دفع مركز جنيف الدولي للعدالة للمطالبة بتحقيق دولي مستقل في ملابسات الوفاة.
ورغم إعلان وزارة العدل مؤخرًا عن إقالة مدير سجن التاجي وتشكيل لجنة تحقيق على خلفية تسريب مقاطع تعذيب، ما زالت الشكوك تحيط بجدوى هذه الإجراءات، في ظل غياب إرادة سياسية واضحة لمعالجة جذور الأزمة، وعلى رأسها الإهمال التشريعي وسياسات الاحتجاز العشوائي.
تُعيد الوقائع الأخيرة فتح ملف السجون العراقية، الذي يعاني – بحسب ناشطين وحقوقيين – من أزمات أمنية وإدارية متفاقمة، في ظل تكرار حوادث الهروب، وغياب الرقابة، وتدهور مستوى الإدارة.