خطيفة مقننة.. مجتمعات شرقية بين الحرية والعار والانتقام الطائفي

بعد ارتفاع الأصوات العلوية المطالِبة بإعادة الفتاة لانا الأحمد (15 عامًا)، ومناشدة والدتها منذ 25 مارس الماضي إنقاذها من التعذيب على يد الشاب السني محمد، ظهرت الفتاة فجأة في فيديو انتشر عبر مواقع التواصل، أكدت فيه أنها تزوجت بـ”خاطفها المفترض” برضاها.وعلى غرار ما حصل مع لانا، وثّقت حادثة اختفاء ميرا قبلها بأسابيع، في 27 من نيسان الماضي، من معهد داخل حمص، على أنها عملية خطف، ثم ما لبثت أن ظهرت في فيديو وهي ترتدي النقاب وتدّعي الزواج برضاها. فأين الحقيقة؟

في الأشهر الأخيرة، انفجر الجدل حول ظاهرة “الخطيفة” في سوريا، بعد إعلان السلطات الأمنية السورية عن “تحرير” فتيات من يد “خاطفيهن”.
وتضاربت القراءات بين من يرى في ذلك ممارسة اجتماعية قديمة لـ”حلّ” مشكلة الزواج، وبين من يعتبرها جريمة مقنّعة باسم الانتقام الطائفي.
وبغضّ النظر عن تصنيف “الخطيفة” كـ”عادة” موروثة أو “خطأ فردي”، يكمن واقع أكثر قتامة: انتهاك حقوق الفتيات والنساء.

سوريا.. “التلميع الإعلامي” وتضارب التقارير

أعادت التقارير الإعلامية في سوريا قضية “الخطيفة” إلى الواجهة، في سياق يخلط بين الخطف والهروب، وتحت عناوين عريضة حذّرت من “اختفاء الفتيات من الساحل السوري”، في ظل الأوضاع الأمنية المتدهورة في منطقة الساحل في أيار الماضي.

وأشار “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، في تقرير نُشر مؤخرًا، إلى أن حالات الخطف في طرطوس ومحيطها تتم بطريقة ممنهجة، وأن العديد من العائلات تُفضّل عدم الإبلاغ عن اختفاء بناتهن وهن في طريقهن إلى طرطوس، خشية الوصمة الاجتماعية أو فقدان الأمل في عودتهن. كما دان ما وصفه بـ”التلميع الإعلامي” لتلك الحوادث.

وتعددت الروايات التي تربط عمليات الخطف بالبعد السياسي، وفي سياق الانتقام الطائفي في مجتمعات تُقاس فيها الكرامة بالعذرية.
وانتشر في هذا السياق فيديو على منصة “إكس”، رفعت فيه إحدى السيدات “دعوة للعالم لتسليحها بحزام ناسف حفاظًا على الكرامة من الشرف، إزاء محاولات الخطف والسبي والاغتصاب.”

كما كشف تقرير مصوّر على موقع “فرانس 24” تصاعدًا مقلقًا في حالات اختطاف فتيات سوريات ينتمين إلى الطائفة العلوية في محافظة طرطوس وريفها. وأشار إلى خوف العائلات من الإعلان عن الاختطاف خشية العار والتشكيك، وإلى “حصول بعض الأهل على أدلة على إعدام بناتهم”.

لكن في المقابل، وأمام التحذيرات من الخطر المحدق بالنساء ــ حدّ منعهن من الخروج بمفردهن ــ يمكن العثور على تقارير متضاربة تضع “الخطيفة” في سياق الممارسة القديمة داخل بعض البيئات العلوية.
وهذه الممارسة مستوحاة من الشركس، وتُستخدم أحيانًا كـ”حلّ” لرفض الأهل ارتباط شاب بفتاة خارج شروط الطائفة أو العشيرة.
مع الإشارة إلى أن “الخطيفة” في المجتمع الشركسي لا تترك التداعيات نفسها كما في المجتمعات المحلية في سوريا؛ إذ لم تكن الخطبة متداولة لدى الشراكسة بمفهومها في المجتمع العربي في السابق، وكان أسلوب “الخطيفة” يُعتبر جزءًا لا يتجزأ من العادات والتقاليد، وهي تتم بالترتيب بين العائلتين المعنيتين، حسب ما نقرأ في كتاب تحولات المجتمع الشركسي المحلي في الأردن للدكتور محمد علي ووردم.

كما انتشرت على مواقع التواصل تعليقات وفيديوهات تروّج لاحتمال هروب بعض الفتيات “بإرادتهن”، إما بدافع الحب أو الضغط الأسري، أو لتجنب الزواج القسري، كما في حالتي لانا وميرا.
ومن بين التعليقات: “صار شيء عادي نسمع بنتًا بعمر 15 أو 16 سنة تهرب مع شاب أكبر منها. بعد فترة يرجعونها، ويقولون خطفها”، أو “العلويون يريدون تسجيل هذه الحالات كخطف للابتزاز أو ادعاء المظلومية”، في منشور آخر على منصة “إكس”.

تضاف إلى ذلك بعض الشهادات غير الرسمية على مواقع التواصل، والتي تكشف فيها الفتيات أنهن هربن بإرادتهن من بيئة عنف أسري أو زواج قسري أو من الرقابة الخانقة على تفاصيل حياتهن اليومية.
وعلى سبيل المثال، في الفيديو الذي نشرته لانا الأحمد، تدّعي أنها “تكلمت في المرحلة الأولى عن الاختطاف خوفًا على محمد، لكنها تحبه وأتت إليه بمحض إرادتها”، ويردف محمد بدوره في الفيديو نفسه مشيرًا إلى “الاستعداد للخروج من البلاد إن تطلب الأمر”، وذلك بحثًا عن الأمن والحرية، خصوصًا وأن عائلات الفتيات قد ترتكب جريمة بحقها تحت ستار إنقاذ “الشرف”.وتشير لانا في شهادتها المصورة إلى خوفها من العودة كي لا تُقتل “غسلًا للعار”.
وفي محاولة لتهدئة النفوس، يشير الزوجان في الفيديو إلى اطلاع القوى الأمنية على الملف، والاتفاق معها على لقاء بين أهل الشاب وأهل الفتاة داخل أحد المراكز الأمنية، لحماية الشابين من أي انتهاك من قبيل العنف أو القتل.
وبغياب قانون يراعي إرادة المرأة ويحمي استقلالها، تتحول الخطيفة إلى مرآة مجتمعية مشروخة: فهل هي إنقاذ أم استغلال؟ وهل الحال سيان في لبنان ومصر والعراق؟

لبنان: خيانة طائفية أم تكريس للتنوع؟

في لبنان، لا تزال ظاهرة “الخطيفة” حيّة، وتُقدّم حلاً للراغبين بالزواج من أشخاص من طوائف مختلفة.
وعلى الرغم من أن لبنان معروف بكونه بلدًا متعدد الطوائف، لا يزال الزواج المختلط يواجه بعض العوائق، خصوصًا في المجتمعات الأكثر تحفظًا، كما لدى الدروز، أو حتى بين المسيحيين والمسلمين أنفسهم. ولا تتسامح بعض العائلات في القرى، ولا حتى بعض رجال الدين، مع من تخرج عن طائفتها لتختار شريكًا من “الضفة الأخرى”.

في إحدى قرى جبل لبنان، هربت أمل (اسم مستعار) الدرزية مع حبيبها السني. تقول: “كلفني ذلك أعوامًا من القطيعة. لقد تزوجت بعلي منذ أكثر من 30 عامًا، ولم أستطع لمّ شمل أولادي بأسرتي إلا منذ أعوام قليلة. كان أهلي يقولون للجميع إنني بحكم الميتة، وشعرت بعزلة مجتمعية. ففي المجتمع الجديد، لم أكن شيعية، وفي مجتمعي الأم ما عدت أعتبر درزية وفية”. وهي تشير مع ذلك إلى “نوع من المرونة في لبنان في الآونة الأخيرة في هذا السياق”

وحيث إن الخطيفة رُبطت مؤخرًا في سوريا بالعامل الطائفي، تستثمر في لبنان حسب الكاتب الاقتصادي باسل الخطيب كـ”حلّ”، خصوصًا وأن الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي عصفت بلبنان منذ عام 2019 دفعت البعض لتجنب التكاليف الباهظة للزواج بفعل الخطيفة. ويتم ذلك أحيانًا بتنسيق وثيق بين العائلتين، مما يوفر عليهما الاتهامات بالبخل، على سبيل المثال.

أحمد من الشبان الذين عانستهم الظروف ووجدوا في الخطيفة حلاً “توافقياً” مع أسرة خطيبته لتجنب الأعباء المادية المترتبة عن الزواج حسب التقاليد في لبنان. يقول: “لا أمتلك ثمن الذهب، ولا بمقدوري ترتيب حفل زفاف بآلاف الدولارات.” توافقنا على الخطيفة حفظًا لماء الوجه، وعلاقتنا بعائلتينا ممتازة، ولو أن الأمر تطلب بعض الهدوء بانتظار تقبل دائرة معارفنا الأكبر للأسباب وراء هذا القرار.

ولكن في سياقات أخرى، تنعكس تداعيات هكذا زواج على علاقة العروسين بأسرتيهما، على حد تعبير الباحث في علم النفس علي محمد، حيث ينقسم الأهل بين الداعمين لخيار الأبناء وبين من يتهمهم بالخيانة.

وعلى أي حال، تنص المادة 514 من قانون العقوبات اللبناني على أن “من خطف بالخداع أو العنف فتاة أو امرأة بقصد الزواج عوقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات”. واستنادًا إلى هذه المادة، يجب أن يقع الخطف بقصد الزواج من ذكر على أنثى، سواء أكان الذكر راشدًا أم قاصرًا. ولكن إذا اشتركت أنثى مع الخاطف لإتمام جريمته، تلاحق معه كشريكة في جرم الخطف أو متدخلة أو محرضة وفقًا لظروف ووقائع كل قضية جرمية على حدة.
ويجب أن يكون الدافع في جريمة الخطف هنا هو قصد الزواج، أي أن يُقدم الخاطف على جريمته بخطف فتاة أو امرأة بقصد الزواج منها. ويعود للمحكمة استجلاء القصد الجرمي من ظروف القضية. كما إذا أقدم شخص على إكراه فتاة على الانتقال معه من منزلها إلى منزله بعد أن رفض أهلها الموافقة على الزواج منه مرات عدة.

كما يظهر تشدد في ما يتعلق بوضع القاصر، حيث تناولت المادة 516 من قانون العقوبات اللبناني حالة خطف القاصر، فعاقبت على خطف القاصر دون خداع أو عنف بالعقوبات السابقة، أي التي تنزل على الخطف بقصد الزواج أو بقصد ارتكاب الفجور. ووفقًا لهذه المادة، “إذا أقدم شخص على خطف قاصر بقصد الزواج يكون عقابه المنصوص عليه بالمادة 514 من قانون العقوبات، أي الحبس من سنة إلى ثلاث سنوات. وإذا كان القصد الجرمي من الخطف ارتكاب الفجور بالقاصر المخطوف، تكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة.”

مصر: من الخطف إلى اعتناق الإسلام

وفي مصر، سريعا ما تتخذ الخطيفة الطابع الطائفي، خصوصا حين تتعلق بالفتيات القبطيات. ومن الأمثلة، اختفاء مارينا أشرف من سوهاج قبل عودتها للظهور في فيديو تشرح فيه أن السبب وراء فرارها هو خروجها عن المسيحية لصالح اعتناق الإسلام.

الداخلية المصرية كانت قد اتهمت في بيان جماعة الإخوان بالترويج “لوجود ظواهر جنائية وإنتشار حالات خطف الفتيات من خلال مقطع فيديو بإستخدام تقنيات الذكاء الإصطناعي”.

ومع ذلك، سلطت تقارير عدة الضوء على ما اعتبرته اختطافا للقبطيات بهدف أسلمتهن، ومنها تقرير بموقع البرلمان الأوروبي قدر عام 2013 خطف 500 فتاة قبطية بالكاد بلغن سن البلوغ لاجبارهن على الزواج بمسلمين واعتناق الاسلام.

بالنسبة للباحث الاجتماعي علي محمد، ” فلا يمكن حصر المسألة كلها بهذا السياق الطائفي البحت خصوصا وأن الأقباط من الأقليات في مصر. ربما حصلت حالات خطف لكن لا يمكن وضع كل اختفاء في خانة الأسلمة وليست كل البنات المخطوفات مسيحيات. ويستدعي ذلك تدخل رجال الدين واحترام حرية المعتقد والحق باختيار الديانة”.

العراق: تزوجها رغم أنف الأهل والقانون!

في بعض المناطق العراقية على غرار سنجار، يلجأ بعض الشباب للخطيفة من أجل إجبار الأهل على القبول بالزواج خصوصا إذا تعذر نتيجة الاختلاف العرقي او الديني والطائفي أو إذا حالت الظروف المادية دونه. وهنا تطرح معضلة ماذا يحدث بعد الخطف، خصوصا وأن الفتيات يعلقن في المنتصف، فالخطيفة لا تعكس إرادتهن على الدوام وفي حال أردن العودة لأهلهن، قد لا يقبل ذويهم خوفا من العار ومن “الشرف المسلوب”.

يحذر الناشط العراقي فراس الجميلي من أن بعض العشائر تلجأ لغسل العار بالدم، “حتى وإن أعلن الخاطف والمخطوفة المفترضان نيتهما الزواج أو طبقاه فعلا. ويتفاوت ذلك حسب أماكن السكن وحسب الوضع المدني للعشائر حيث أن الخطيفة محرمة بعرف عموم العشائر العربية والكردية، ولو أن العقاب المجتمعي الذي يصل حد الانتقام بالموت خف بدرجات متفاوتة”.

وتبرز الخطيفة كممارسة خطيرة في العراق حيث لا تقتصر على الحالات التي تعبر فيها الفتاة عن نوع من الرضا. فقد يعمد شاب ما لخطف فتاة دون إرادتها ومن ثم الزواج الرسمي بها لإسكاتها وإسكات المجتمع والتحايل على القانون. ومن الزاوية الحقوقية، تنص المادة 427 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لعام 1969 على وقف تحريك الدعوى بحق الخاطف إذا تم عقد الزواج الصحيح المستكمل لشروطه القانونية والشرعية. وهذا يعني أن الضحية لا تعود فعلا ضحية في حالة “الخطيفة” خصوصا إن كانت المخطوفة قاصر ولا تتمتع بالنضج الكافي للهروب مع زوجها المستقبلي.

وعلى أرض الواقع، يتم التحايل على قاعدة الظفر بالفتاة لمجرد أن المجتمع قد يرفض المراهنة على عفتها. “شكى شاب على مواقع التواصل الاجتماعي من رفض اهل الفتاة التي يرغب الزواج بها تزويجه ابنتهم فنصحه صديق له قائلا: اخطفها حتى تتزوجها رغم انف اهلها”.. عبارة تختصر التحايل على المجتمع وعلى العشائر من باب القانون في مقال نشره مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء بعنوان “قانون العقوبات العراقي يكافئ الخاطف ويعاقب المخطوف”.

ولعل الأخطر حسب دراسة نشرها مركز Civil Society Knowledge Centre يكمن في “تسييس الزواج” و”تسليع المرأة وتحميل المرأة أوزار الحرب” ومصادرة رأيها في زمن النزاع السياسي. ويستثمر الزواج لتحصين المجتمعات العشائرية من خلال مضاعفة انغلاقها. فيأتي نتاج هذا الضغط إما بخطيفة داخل العشيرة نفسها لمنع الفتاة من الزواج بأي كان خارج دائرة أبناء العم وإما بهروب الفتاة من أجل الارتباط بمن تحب. 

ويكمن الحل حسب علي محمد، بغض النظر عن المكان والزمان، في التواصل المفتوح والتوعية البناءة بهدف فهم الآلية التي تدفع “الفتيات للهرب دون أي رادع مع إدراكهن التام بأنهن قد يدفعن حياتهن الثمن أحيانا”.

في الختام، سواء أكانت “الخطيفة” هروباً من قيود العائلة أو العشيرة، أم فخاً نُصبَ للفتاة باسم الحب أم قرارًا مستنيرًا ، تبقى الحقيقة المُرّة: في أغلب الحالات، تفقد الفتاة حقها في تقرير مصيرها ووحدها من تدفع الثمن في مجتمع لا يراها وسط الضجيج إلا مرآةً لـ”شرفه”، وليس كإنسان حرّ.