“الفاشر” تعيد الصراع الدموي في السودان للواجهة: إعدامات واغتصابات تهز العالم

عابر – السودان

عمليات إعدام جماعية، نساء خائفات، وأطفال مرعوبون…
مقاطع مصوَّرة غزت مواقع التواصل الاجتماعي وشاشات التلفاز في الأيام الأخيرة، توثّق انتهاكات خطيرة تعرّض لها أبناء مدينة الفاشر السودانية، عقب سيطرة قوات الدعم السريع – أحد طرفي الصراع -على المدينة، إثر انسحاب قوات الجيش المناوئة لها منها.

وبحسب منظمات إنسانية، فإن عدد القتلى في المدينة تجاوز ألفي شخص، فيما وثّقت تقارير حقوقية عشرات حالات الاغتصاب التي ارتُكبت داخل المدينة.
وهكذا جاءت فاجعة الفاشر لتُكمِل فصول حربٍ طاحنة خلّفت الدمار وآلاف الضحايا، وعرّضت أبناء السودان لمجاعةٍ تُعدّ من الأشدّ في تاريخهم الحديث.

“إبادة جماعية”

بعد أن بسطت قوات الدعم السريع سيطرتها على مدينة الفاشر الأحد الماضي، باتت تهيمن على كامل إقليم دارفور – المنطقة الشاسعة الواقعة في غرب السودان والتي تُغطّي نحو ثلث مساحة البلاد –  وذلك عقب حصارٍ دام ثمانية عشر شهرًا.

وبذلك أصبحت قوات الدعم السريع، مع حلفائها، تسيطر على غرب السودان وأجزاء من الجنوب، في حين يحتفظ الجيش السوداني بسيطرته على مناطق الشمال والشرق والوسط، وسط حربٍ مدمّرة تعصف بالبلاد منذ أكثر من عامين.

وتشير تقارير منظمات حقوقية إلى أن مئات الاف المدنين ما زالوا محاصرين داخل المدينة، في ظروف إنسانية بالغة القسوة.

وقالت نقابة أطباء السودان إن نحو 177 ألف شخص ما زالوا عالقين في الفاشر، واصفة ما جرى هناك بأنه «إبادة جماعية وتطهير عرقي ممنهج وجرائم حرب مكتملة الأركان».

من جانبها، أعربت منظمة الصحة العالمية عن صدمتها من مقتل أكثر من 460 شخصًا داخل المستشفى الوحيد في الفاشر غربي السودان.

وأكد المدير العام للمنظمة، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، في بيانٍ أن المنظمة “مستاءة ومصدومة بشدة من تقارير تتحدث عن مقتل أكثر من 460 مريضًا ومرافقًا لهم في المستشفى السعودي للتوليد بمدينة الفاشر، إثر الهجمات الأخيرة، إلى جانب اختطاف عاملين في مجال الصحة”.

مشاهد صادمة

خلال أسبوع، تحوّلت أنظار العالم نحو مشاهد القتل والتعذيب والإعدام الجماعي التي طالت المدنيين في مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور غرب السودان، وذلك عقب إعلان رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان انسحاب قوات الجيش من المدينة، في محاولة لـ”تجنيبها مزيدًا من التدمير والقتل الممنهج” على يد قوات الدعم السريع.

وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو مروّعة، صوّرها ونشرها مقاتلون من قوات الدعم السريع، بعد قطع الإنترنت عن المنطقة. كما أظهرت صور الأقمار الصناعية دلائل على عمليات قتل جماعي واسعة النطاق، تنوّعت بين الإعدام الميداني والشنق ودفن الأحياء وحتى التعليق على الأشجار –  في مشاهد وُصفت بأنها الأبشع منذ اندلاع حرب السودان قبل أكثر من عامين ونصف.

وقد أثارت تلك الصور صدمة وغضبًا واسعين في الرأي العام العربي والدولي، لما حملته من فظاعة ووحشية. ولم تفلح تصريحات قوات الدعم السريع، التي أعلنت أمس القبض على أحد أبرز عناصرها المعروف بلقب “أبو اللول”- والذي ظهر في أكثر من مقطع وهو ينفّذ إعدامات جماعية لأشخاص عُزّل – في تهدئة موجة الغضب.

ويرى حقوقيون ومراقبون أن حجم الانتهاكات يفوق بكثير مجرد اعتقال فرد أو مجموعة ممن وثّقوا جرائمهم بالكاميرا، مشيرين إلى أن العديد من الحالات الأخرى ما زالت غير موثقة أو لم يُكشف عنها بعد.

ألاف القتلى

تشير تقارير محلية وأممية ودولية إلى وقوع عمليات قتل جماعي واستهداف منظم للمدنيين على أساس الهوية والانتماء العِرقي، في واحدة من أكثر المآسي الإنسانية التي شهدها السودان منذ اندلاع الحرب.

وقالت منى نور الدائم حسن، مفوّضة العون الإنساني بالإنابة في السودان، خلال مؤتمر صحفي، إن نحو 800 ألف مدني كانوا يعيشون في منطقة الفاشر، وقد قُتل منهم خلال الاجتياح الأخير أكثر من 2000 شخص، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، مشيرةً إلى أن قوات الدعم السريع نفّذت إعدامات ميدانية لفرق الإغاثة والمتطوعين، وقتلت رموزًا اجتماعية ودينية خلال اليومين الماضيين.

وبحسب منظمة الصحة العالمية، لا يزال مئات الآلاف من السكان محاصرين داخل الفاشر، يعانون من انعدام شبه تام للغذاء والمياه النظيفة والرعاية الطبية. كما أجبر تصاعد العنف نحو 28 ألف شخص على الفرار من المدينة خلال الأيام الأخيرة، من بينهم 26 ألفًا نزحوا إلى المناطق الريفية المجاورة، فيما توجّه نحو ألفي شخص إلى منطقة طويلة القريبة.

وتتوقع الأمم المتحدة أن ينزح أكثر من 100 ألف شخص إضافي إلى طويلة خلال الأيام والأسابيع المقبلة، لينضمّوا إلى نحو 575 ألف نازح سابق من الفاشر لجأوا إليها وإلى مناطق أخرى. وتشير التقارير إلى أن غالبية النازحين من النساء والأطفال، وكثيرٌ منهم غير مصحوبين بذويهم.

وتؤكد التقارير الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ومنظمات دولية أخرى وجود نمطٍ متكرّر من الانتهاكات الجسيمة، يشمل تدميرًا ممنهجًا للقرى واستهدافًا متعمدًا للمدنيين.

عمليات أغتصاب

كشف تقرير مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في 31 أكتوبر أن الانتهاكات في الفاشر لم تعد مقتصرة على النزوح، بل شملت جرائم ضد الإنسانية وعنفًا جنسيًا ممنهجًا. فقد تعرّضت 25 امرأة على الأقل للاغتصاب الجماعي بعد اقتحام قوات الدعم السريع مركزًا للنازحين، ما أجبر نحو 100 أسرة على الفرار وسط إطلاق نار وترهيب.

ورغم هذه الانتهاكات المروعة، لا يزال التمويل الدولي للإغاثة دون المستوى المطلوب، تاركًا الملايين يواجهون مصيرهم في صمت مأساوي.

فيما وثق تقرير نشرته منظمة العفو الدولية بعنوان لقد اغتصبونا جميعًا: العنف الجنسي ضد النساء والفتيات في السودان،  تعَرُّض 36 امرأة وفتاة لا يتجاوز عمرهن 15 عامًا، للاغتصاب أو الاغتصاب الجماعي على أيدي جنود قوات الدعم السريع، إلى جانب أشكال أخرى من العنف الجنسي، في أربع ولايات سودانية وتشمل الانتهاكات اغتصاب إحدى الأمهات بعد انتزاع طفلها الرضيع منها، واستعبادًا جنسيًا لمدة 30 يومًا لامرأة في الخرطوم، بالإضافة إلى الضرب المبرّح والتعذيب باستخدام سائل ساخن أو شفرات حادة، والقتل.

وفي تعليقها على الوضع، قالت الصحفية والمدافعة عن حقوق الإنسان زمزم خاطر إن هذه الانتهاكات مستمرة منذ بداية الحرب، وأن الأرقام الفعلية قد تكون أضعاف المعلن بسبب القيود الأمنية والاجتماعية. وأضافت أن النساء الحوامل لا يكاد يصلن إلى خدمات الصحة الإنجابية، وتصف الوضع بأنه “مأساوي وتتجاوز التصور، مع عزلة تامة عن أبسط الحقوق الإنسانية”.

التجويع… سلاح حرب متعمد

أكدت المنسقة الإنسانية للأمم المتحدة في السودان، دينيس براون، أن قوات الدعم السريع “أبقت المدنيين محاصَرين في أماكن لا يستطيعون الوصول فيها إلى الغذاء، وهو ما يعادل استخدام التجويع كسلاح حرب”، مشددةً على أن هذه الممارسات تُبرز أهمية توثيق الانتهاكات لضمان العدالة والمساءلة مستقبلًا.

وأعربت براون عن قلقها البالغ مما وصفته بـ”نمطٍ متكرّر للسيطرة على المدن وتحويلها إلى حصون مغلقة، لا يستطيع أحد الدخول إليها أو الخروج منها، بما في ذلك العاملون في مجال الإغاثة”، مجدّدةً دعوة الأمم المتحدة إلى تأمين وصول آمن وغير مشروط للعاملين الإنسانيين الذين ليست لديهم أي أجندة سياسية.

من جانبها، أوضحت المدافعة السودانية عن حقوق الإنسان مروة عبد أن السودان يشهد انهيارًا أمنيًا ومعيشيًا شاملًا، واصفة الوضع بأنه “كارثة إنسانية غير مسبوقة”، بينما تؤكد وكالات الأمم المتحدة أن البلاد تواجه حاليًا أكبر أزمة إنسانية في العالم.

وأضافت مروة أن ما بين 24 و25 مليون شخص –  أي ما يقرب من نصف سكان السودان – يعانون من انعدام حاد في الأمن الغذائي، ويُقدّر أن نحو 638 ألف شخص يعيشون ظروف مجاعة أو كارثة غذائية (المرحلة الخامسة وفق تصنيف الأمن الغذائي العالمي)، بحسب إحصاءات دولية حديثة.

وفي مناطق مثل زام للنازحين في شمال دارفور ومدينة الفاشر، تم تسجيل حالات مجاعة مؤكدة بعد توقف المساعدات الإنسانية بسبب الحصار ومنع مرور القوافل، ما ترك آلاف الأسر مهددة بالموت جوعًا. وتضيف مروة أن الحصار المفروض من قبل الأطراف المتحاربة، إلى جانب الانقطاع المتكرر للاتصالات، خلق “حالة من العزلة التامة عن العالم الخارجي”، مما يجعل توثيق الانتهاكات أو تقديم المساعدات أمرًا شبه مستحيل.

عنف متصاعد

وكان مجلس الأمن الدولي، قد أعرب عقب جلسة خُصصت لمناقشة الأوضاع في السودان، عن قلقه البالغ إزاء تصاعد أعمال العنف في مدينة الفاشر وما حولها، محذرًا من تزايد خطر وقوع فظائع واسعة النطاق ذات دوافع عرقية. وأكد المجلس أن الأولوية العاجلة تتمثل في استئناف المحادثات بين الأطراف المتحاربة للتوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار وبدء عملية سياسية شاملة وجامعة يقودها السودانيون أنفسهم.

وفي السياق ذاته، قال مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية إن هناك أسبابًا معقولة للاعتقاد بارتكاب جرائم تدخل ضمن اختصاص نظام روما الأساسي في إقليم دارفور. وأعرب المكتب عن قلقه الشديد إزاء الهجمات الواسعة الجارية حاليًا في مدينة الفاشر، مؤكدًا مواصلة جهوده في التحقق من الانتهاكات في شمال دارفور، وتطوير شراكات دولية لدعم أنشطة جمع الأدلة وحفظها تمهيدًا للمساءلة القانونية.

جذور الصراع

ترجع اصول الصراع الحالي الى مابعد الأطاحة في أبريل 2019 بالرئيس المعزول عمر البشير، بمساندة كل من الجيش وقوات الدعم السريع، اللذين وضعا أسس الاتفاق على المرحلة الانتقالية بعد عزل البشير. لكن الاتفاق لم يدم طويلًا، إذ شهدت العاصمة الخرطوم في أكتوبر 2021 اشتباكات عنيفة بين الطرفين بعد الإطاحة بالحكومة المدنية.

تحولت السودان في أبريل 2023 إلى ساحة حرب مفتوحة بين الطرفين المتنازعين على ثروات البلاد ومقاليد الحكم، ما هدد وحدة الأراضي السودانية وأدى إلى ارتكاب مجازر وجرائم طائفية وعرقية، دفعت إلى أكبر أزمة نزوح في العالم، تركزت معظمها في مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور.

الشخصيتان الرئيسيتان في الصراع هما: الفريق عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش ورئيس “مجلس السيادة” منذ عام 2019، و الفريق محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، الذي كان نائبه في المجلس وقائد قوات الدعم السريع.