المرسوم 54: مرسوم رئاسي يبيح الاعتقالات ويهدد حرية التعبير في تونس
عابر – تونس

في سبتمبر 2022، صدر في تونس مرسوم رئاسي يُعرف بـ”المرسوم 54″، تضمّن أحكامًا تهدف، بحسب نصه، إلى مكافحة الجرائم المرتبطة بأنظمة المعلومات والاتصال.
ورغم أن المرسوم يقدَّم على أنه خطوة لحماية الفضاء الرقمي والحد من الجرائم الإلكترونية، فإن منظمات حقوقية ترى فيه أداة لتقييد حرية التعبير وإسكات أصوات المعارضين، إلى جانب فرض رقابة مشددة على الصحافة في البلاد.
ومنذ دخوله حيّز التنفيذ، شهدت تونس مئات الإيقافات شملت مواطنين وصحفيين، ما دفع منظمات محلية ودولية إلى اعتباره أحد أبرز مظاهر تدهور مؤشرات حقوق الإنسان في تونس.
ما هو المرسوم عدد 54 ؟
يحدّد المرسوم الرئاسي عدد 54، الصادر في سبتمبر 2022، الأحكام المتعلقة بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال.
ينصّ الفصل 24 من المرسوم على أنه:
“يعاقب بالسجن مدة خمس سنوات وبغرامة قدرها خمسون ألف دينار تونسي (حوالي 17 ألف دولار) كل من يتعمّد استعمال شبكات أو أنظمة معلومات واتصال لإنتاج أو نشر أو ترويج أو إرسال أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبًا للغير، بهدف الاعتداء على حقوقهم أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بثّ الرعب بين السكان.”

كما ينصّ الفصل نفسه على معاقبة كل من يتعمّد استخدام أنظمة المعلومات لنشر أو إشاعة أخبار أو وثائق مزيفة تتضمّن معطيات شخصية أو تُسيء إلى الغير أو تشهّر بهم، بالعقوبات ذاتها. وتتضاعف هذه العقوبات إذا كان الشخص المستهدف موظفًا عموميًا أو من في حكمه، وفقًا لنص المرسوم.
إسكات المعارضة؟
تروي صفاء محروس قصة قريبها الذي أُوقف مؤخرًا بموجب المرسوم 54، وتوضح أن سبب إيقافه يعود إلى نشره، عام 2012، صورة على صفحته في “فيسبوك” تتضمن مقولة لحسن البنا. وتقول صفاء إن السلطات وجهت له تهمًا إرهابية على خلفية هذا المنشور القديم.
وتضيف قائلة: “قامت الثورة في تونس من أجل حرية التعبير. عانينا سنوات طويلة من القيود، وكانت الكلمة تُحسب علينا. بعد الثورة استبشرنا بالحرية واعتبرناها أحد أهم مكاسب الشعب التونسي، لكن مع الأسف جاء هذا المرسوم ليعيد الماضي في صورة أكثر خطورة، لأن الاعتقالات أصبحت اليوم مبررة بنص قانوني وتُنفذ بشكل يومي.”

وفي حالة أخرى، يروي المهدي بن حميدة، وهو تونسي مقيم بالخارج، أنه أُوقف في مطار تونس قرطاج عند عودته في أبريل الماضي لزيارة والدته المريضة، وذلك بسبب تدوينات نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي انتقد فيها السلطة والنظام السياسي.
وفي سبتمبر، أُفرج عنه مع بقائه على ذمة التحقيق، في خطوة وصفتها جمعية ضحايا التعذيب “جنيف” بأنها “إفراج منقوص”، معتبرة أن الانفراج الحقيقي لن يتحقق إلا بإطلاق سراح جميع معتقلي الرأي والتعبير في تونس.
أحكام تصل للإعدام…
لم تتوقف تطبيقات المرسوم 54 عند حدود الإيقافات والملاحقات، بل وصلت إلى حد إصدار أحكام بالإعدام في بعض القضايا التي أُثيرت بموجبه، وهو ما أثار موجة واسعة من الغضب والانتقادات في تونس.
فقد أكد رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، بسام الطريفي، في تدوينة نشرها على صفحته في فيسبوك يوم الجمعة 4 أكتوبر، أن قاضيًا تونسيًا أصدر حكمًا بالإعدام بحق رجل يُدعى صابر بن شوشان (56 عامًا)، بعد إدانته بتهمتي “إهانة رئيس الجمهورية“ و”الاعتداء على أمن الدولة”، وذلك بسبب منشورات على موقع فيسبوك، إضافة إلى شبهة “نشر أخبار زائفة تستهدف موظفًا عموميًا“.
وقد وصف ناشطون وحقوقيون هذا الحكم بأنه تصعيد خطير في استخدام المرسوم 54 ضد المعارضين والنشطاء، معتبرين أنه يكرّس واقعًا من التضييق على حرية التعبير في تونس.

في 6 أكتوبر 2025، أعلن محامي المتهم أسامة بوثلجة، عبر تدوينة على صفحته في فيسبوك، الإفراج عن موكّله صابر بن شوشان. وأوضح أن عائلة بن شوشان هي التي أبلغته بقرار الإفراج، مؤكدًا أنه لم يكن على علم بالمسار القضائي الذي أفضى إلى هذا القرار، خاصةً وأنه كان قد تقدّم فقط بطلب لاستئناف الحكم الابتدائي القاضي بالإعدام.
وفي تدوينة لاحقة، أشار بوثلجة إلى أن الإفراج عن موكّله تمّ بعفو خاص من الرئيس التونسي قيس سعيّد، بعد ما وصفه بـ”الرجوع في الاستئناف”، دون أن يقدّم تفاصيل إضافية حول الإجراءات القانونية التي رافقت تنفيذ العفو.
الجميع تحت طائلة الملاحقة
منذ دخول المرسوم 54 حيّز التنفيذ، رُفعت نحو 15 قضية ضد صحفيين استنادًا إليه، وفق تأكيدات نقيب الصحفيين التونسيين زياد دبار، الذي أوضح أن جهات من بينها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وعددًا من الشخصيات السياسية كانت وراء هذه الدعاوى.
وأشار دبار، في تصريحات إعلامية محلية، إلى أن المرسوم بات يُستخدم ضد كل صحفي يوجّه انتقادات إلى مسؤولين، في حين أن العمل الصحفي، بطبيعته، قائم على الاجتهاد ويحتمل الخطأ. وأضاف أن المرسوم لم يُطبَّق في الأصل لمحاربة الجرائم الإلكترونية أو تبييض الأموال أو القرصنة، بل استُخدم أساسًا في قضايا الرأي والتعبير.

من جانبه، كشف رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بسام الطريفي، أن نحو 300 شخص أُحيلوا على القضاء بموجب المرسوم 54، مشيرًا إلى أن هذا الرقم يعود إلى صيف 2024، وبالتالي لا يشمل الموقوفين خلال السنة الثالثة لتطبيق المرسوم.
واعتبرت الرابطة التونسية لحقوق الإنسان أن المرسوم يمثّل تضييقًا على الحريات في تونس، ووصفت تطبيقه بأنه “سيف مصلت على رقاب المواطنين”، محذّرة من أن “استمراره بهذا الشكل سيؤدي إلى امتلاء السجون التونسية”.
كما أكدت الرابطة أن معظم الإيقافات شملت مواطنين لم تتجاوز أفعالهم التعبير عن الرأي على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل حالة المواطن عبد المنعم حفيظي الذي وُجهت له تهمة “ارتكاب أمر موحش في حق رئيس الدولة” بعد منشور انتقد فيه منظومة الحكم، وحالة محمد الأزهر إبراهيم الذي أوقف بسبب مشاركته صورة متداولة على شبكات التواصل الاجتماعي.
تحذيرات من مصادرة الحريات
منذ إقراره، واجه المرسوم عدد 54 إدانات واسعة من قبل منظمات وجمعيات حقوقية تونسية، دعت رئيس الدولة إلى سحبه دعمًا لحرية التعبير في البلاد. واعتبرت هذه المنظمات أن أحكام المرسوم تتعارض بشكل صارخ مع فصول الدستور التونسي ومع المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي صادقت عليه تونس، وينص على حرية تلقي المعلومات والأفكار ونقلها دون قيود، وبأي وسيلة كانت.
كما حذّرت من خطورة هذا المرسوم على الحقوق والحريات الرقمية في البلاد، مشيرة إلى أنه يتضمّن قيودًا غير مسبوقة من شأنها أن تُرهب الصحفيين والمواطنين وتدفعهم إلى الامتناع عن التعبير عن آرائهم، خصوصًا حين تتعلق بانتقاد المسؤولين أو مؤسسات الدولة.

ومع دخول المرسوم عامه الثالث، أصدرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بيانًا اعتبرت فيه أن هذا النص أصبح مصدر قلق بالغ للمنظمات الحقوقية والمهنية، بسبب ما يتضمنه من صياغات فضفاضة وغامضة تمنح السلطات صلاحيات واسعة للملاحقة القضائية، وتُعرّض الصحفيين والمواطنين لعقوبات سالبة للحرية لمجرّد التعبير عن آرائهم أو نشر معطيات تتعلق بالشأن العام.
كما رأت النقابة أن المرسوم صدر في سياق سياسي واجتماعي يتّسم بـتصاعد الانتهاكات الممنهجة لحرية التعبير ومحاولات إخضاع الصحافة وترهيب الإعلاميين والناشطين، مؤكدة أن تطبيقه خلال السنوات الثلاث الأخيرة تمّ بشكل ممنهج ضد الصحفيين والمدونين والسياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان.
ووفق معطيات النقابة، فقد تمت محاكمة المئات منذ صدور المرسوم حتى سبتمبر 2025، بتهم تتعلق بـ”نشر أخبار زائفة” أو “الإساءة إلى الغير”، وهو ما أدى، بحسبها، إلى خلق مناخ من الخوف والرقابة الذاتية داخل المؤسسات الإعلامية، وتهديد مباشر لجوهر حرية الصحافة في تونس.
.
تنقيح ولكن…
منذ أبريل الماضي، أحال عدد من نواب البرلمان التونسي مشروع قانون أساسي يهدف إلى تنقيح وإتمام المرسوم عدد 54، مع النظر فيه وإحالته إلى لجنة التشريع العام.
ورغم أن أصحاب المبادرة التشريعية شددوا على أن المرسوم 54 يمس جوهر الحقوق والحريات المكفولة بالدستور التونسي، وأن بعض أحكامه تتعارض مع نصوص قانونية سارية، إلا أن مسار التعديل اتسم بالبطء، وفق مراقبين.
وقد طالبت نقابة الصحفيين التونسيين بالإسراع في عقد الجلسات الضرورية لإنهاء العمل على تنقيح المرسوم، بما يضمن توازنًا بين حرية التعبير وحماية المعطيات الشخصية دون المسّ بحقوق المواطنين والصحفيين. كما دعت النقابة إلى وقف الملاحقات القضائية الجارية ضد الصحفيين والمدوّنين بموجب هذا المرسوم والإفراج عن الموقوفين.
مؤخرًا، أصدرت منظمات دولية، على غرار منظمة العفو الدولية، بيانات دعت فيها إلى الإفراج عن السجناء السياسيين في تونس بموجب المرسوم ذاته. وأشارت هذه البيانات إلى تدهور مؤشرات حقوق الإنسان في تونس، معتبرة أن الوضع الراهن يبعث “رسائل سلبية” إلى المجتمع الدولي حول مسار الحريات، ومطالبة الدولة التونسية باحترام التزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان.
